يأتي تكثيف المساعي الدولية من أجل تسوية سياسية في سورية، بعد أن تمكن «أصدقاء بشار الأسد» و«أصدقاء سورية»، من تحويل الثورة السورية إلى صراع، يشبه ذلك، الذي اشتعل في بدايات القرن العشرين المنصرم ما بين روسيا ودول التحالف الغربي على تركة الإمبراطورية العثمانية، والذي انتهى إلى تقاسم النفوذ في الدول والولايات والأمصار الخاضعة لها. ولعل الجديد في لعبة الدول في صراعها على سورية هو دخول العامل الفارسي بقوة، عبر مشروع قومي أيديولوجي ارتدادي، ويقظة مفاجئة للدب الروسي، بعد أن نام طويلاً على وقع انهيار دول منظومته الاشتراكية المسفْيَتَة، وفقدانه معظم مخالبه في منطقة الشرق الأوسط، وبات يتمسك بقاعدته في طرطوس، ويختصر سورية في موقع جيواستراتيجي، ضارباً عرض الحائط بشعبها وثورة غالبيتها المظلومة. لكن البحث عن تسوية، أو حلّ سياسي، للصراع في سورية، يقتضي تمثيل المعارضة السورية، وكيفية مشاركتها في مؤتمر جنيف - 2، الأمر الذي يفضي إلى رسم خريطة المعارضة السياسية في سورية، بل ويسمه بسمتها، من حيث الاصطفاف والأطروحات، حيث أعلنت هيئة التنسيق الوطني لقوى التغيير الوطني في سورية، بزعامة حسن عبدالعظيم، منذ تشكيلها، عن سقف متدنٍّ، يضعها في خانة تميل إلى الاصطفاف مع الحل الروسي، الذي يرى بقاء بشار الأسد استمراراً لما تبقى له من مصالح في الشرق الأوسط، وتأميناً لموطئ قدم على المياه الدافئة للبحر الأبيض المتوسط. والمتابع المسار السياسي لهيئة التنسيق يلاحظ عدم خروجها عن الحضنين الروسي والإيراني، في الطروحات والتوجهات، حيث أعلنت تركيبتها العضوية عن تيار يجمع بقايا القوميين والناصريين وبقايا اليسار المتهالك، الذي يتمسك بتلابيب لافتات الممانعة والمقاومة لمشاريع إمبريالية وصهيونية، مرسومة في رؤوس أصحابه. واستمرت هيئة التنسيق بتجاهل ضباط وجنود رفضوا توجيه بنادقهم إلى صدور عامة الناس، بل إن الهيئة أرسلت وفوداً إلى موسكو وإلى طهران وبكين، إعلاناً عن وضع نفسها تحت رعاية أصدقاء بشار الأسد، ولم تطرح شعار إسقاط النظام إلا تحت ضغط الحياء من مطالب الشارع وحراكه، فيما تولى ممثلها في الخارج، هيثم المناع، مهمة «وجه المقابحة» بطروحات مناهضة للجيش الحر، إذ وصفه في أكثر من مرة بالعصابات المسلحة والإرهابيين والسلفيين، وحاول التمسح بأطروحات «غاندية»، لا تتماشى مع طباعه وسلوكه السياسي، إضافة إلى توليه مهمة مطابقة أطروحات الهيئة التي يمثلها أو يرأسها في الخارج، مع أطروحات الساسة الروس والإيرانيين والصينيين، التي لا تبتعد عن أطروحات النظام الأسدي. في الطرف المقابل من خريطة المعارضة السورية، ظهر المجلس الوطني في صورة المنافح عن أهداف الثورة، وتبنّي شعاراتها، وراح يلاحق ما يقول الناشطون ويرددونه، من دون أن يتمكن من تشكيل مظلة سياسية للثورة، ومن دون أن يرتقي بأدائه إلى مصاف قيادة الثورة وتوجيهها وتصحيح مساراتها، وبقي يدور حول شعار «إسقاط النظام برموزه كافة»، بينما لم يقدم برامج ومبادرات واضحة، ترسم خريطة طريق لإسقاط النظام وبناء سورية الجديدة. وهو أمر يفسر، في جانب منه، السبب الدولي لتشكيل «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية»، الذي أريد بديلاً عن المجلس الوطني السوري، لكن الأمر انتهى إلى تشكيل صورة مشابهة له، بل استنساخه، والذهاب في القول إلى أن المجلس بات يسيطر على الائتلاف، من خلال القوى والكتل المتمثلة بجماعة «الإخوان المسلمين» وبكتلة العمل الوطني، وكتلة أمينه العام مصطفى الصباغ، الذي يسوّغ قوة مزعومة بالاستناد إلى دعمه الإقليمي. إضافة إلى كتلة ما تبقى من «إعلان دمشق»، ممثلاً برئيسه الموقت جورج صبرا، الذي يتندر البعض بتسميته الحاج محمد صبرا، فيما بقيت شخصيات ليبرالية وديموقراطية، أبرزها رياض سيف وسهير الأتاسي، خارج نطاق التأثير الفاعل. ولعل خريطة المعارضة السياسية السورية، لا تقتصر فقط على الائتلاف والهيئة، بل تمتد إلى المنبر الديموقراطي بزعامة ميشيل كيلو، وتيار التغيير الوطني بزعامة عمار قربي، والتحالف الوطني الديموقراطي، وتنظيمات وهيئات وأحزاب أخرى داخل سورية وخارجها، كثيرة وصغيرة، لكن معظم ما تشكل على جانبي الهيئة والائتلاف، لا يرتقي إلى مصاف الكيان السياسي الممأسس والمنظم. كما أن التمثيل الكردي بقي خارج تشكيلات المعارضة المعروفة، واقتصر على مشاركات محدودة، إذ بقي المجلس الوطني الكردي، المكون من أحزاب كردية صغيرة، خارج المجلس الوطني السوري وخارج الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، وشكّل بضغوط من زعيم إقليم شمال العراق، «الهئية الكردية العليا»، مع ما يسمى «مجلس شعب غرب كردستان»، الذي يسيطر عليه حزب الاتحاد الوطني الديمقراطي (PYD)، بزعامة صالح مسلم محمد، وهو يشكل الذراع السياسية لحزب العمال الكردستاني. وأفضت الحاجة الى توحيد جهود القوى الديموقراطية في المعارضة السورية، والتنسيق في ما بينها، إلى تشكيل «اتحاد الديموقراطيين السوريين» الذي عقد مؤتمراً تشاورياً تحضيرياً في القاهرة، في 11 و12 أيار (مايو) الماضي، حضره ما يزيد عن 250 شخصاً، يمثلون شخصيات مستقلة، وأخرى تنتمي إلى تشكيلات وقوى منظمة وحزبية. وانعكس تشكيل اتحاد الديموقراطيين السوريين في التأثير في توسعة الائتلاف، حيث انتخبت الهئية العامة منه، بعد ضغوظ وتدخلات كثيرة، ثمانية أعضاء جدد، فقط، من قائمة مؤلفة من 22 شخصاً، توافقت عليها الكتل الرئيسة في الائتلاف مع ممثلي اتحاد الديموقراطيين، ثم اضطرت بعد تزايد الضغوط للموافقة على ضم 43 عضواً جديداً، يتوزعون إلى 14 عضواً يشكلون بقية قائمة ال22، إضافة إلى 14 عضواً من الحراك الثوري، وبمعدل عضو جديد من كل محافظة سورية، و15 عضواً، يختارهم المكون العسكري ممثلاً بالقيادة المشتركة لأركان الجيش السوري الحر، وبالتالي يرتفع عدد أعضاء الائتلاف من 63 إلى 114 عضواً. معنى التوسعة غير أن توسعة الائتلاف عشية الذهاب إلى جنيف - 2، لا تعني زيادة عدد الليبراليين أو الديموقراطيين أو زيادة حصصهم فيه، وفق ما يرّوج بعضهم، بل تعني زيادة تمثيل القوى السياسية والمكونات والأطياف السورية، إضافة إلى تمثيل قوى الحراك والمكون العسكري، بما يعني إعادة رسم خريطة الائتلاف السياسية، لمواجهة الاستحقاقات على أساس التمثيل المتوازن والبرامج والأطروحات، بما يعطيه قوة أمام قوى الداخل السوري والخارج الدولي، خصوصاً أن الائتلاف بتركيبته الجديدة، يحظى بحصة أوسع في التمثيل أمام أطراف مؤتمر جنيف - 2، مدعوماً باتحاد الديموقراطيين وقوى الحراك الثوري في الداخل والمكون العسكري، ممثلاً بالجيش الحر، وبالتالي يضعف موقف روسيا وتوابعها، التي تضع حجة عدم توحد المعارضة وخلافاتها حجر عثرة أمام الوصول إلى الغاية من جنيف - 2، المتمثلة بالخلاص من نظام بشار الأسد، ووقف معاناة السوريين. ولعل وحدة صوت المعارضة السورية، وذهابها إلى المؤتمر الدولي برؤى واضحة ومحددة، يشكلان ضربة قوية للنظام السوري ولأصدقاء بشار الأسد، فالنظام، على رغم إعلانه المشاركة مبدئياً في جنيف - 2، إلا أنه سيحاول بإسناد من روسيا وإيران عرقلة المؤتمر، وتفريغه من محتواه، بل تحويله إلى مجرد لقاء بروتوكولي، لا يحقق أهدافه المفضية إلى حكومة انتقالية ذات صلاحية كاملة، وإنهاء أي دور لرأس النظام وحاشيته في مستقبل سورية، ما يعني نهاية نظام الاستبداد والقتل والظلم. ومعروفة عن النظام السوري مناوراته ومماطلاته وخداعه، وسلوكه الذي يظهر شيئاً ويخفي أشياء كثيرة. ولا شك في أن ساسة روسيا سيساعدون النظام في تعطيل عقد جنيف - 2، وإفشاله في حال عقده، خصوصاً أن أي بحث جدي في مرحلة انتقالية، يعني بالضرورة التخلص من النظام الأسدي، والدخول في مرحلة ما بعده، وهو أمر يحاول النظام، مدعوماً بميليشيات حزب الله وميليشيات إيرانية وعراقية، عدم التسليم به، ومحاولة خلق واقع جديد على الأرض يمكنه من التفاوض عليه. * كاتب سوري