تحكي الأساطير العربية القديمة أنّ طائراً كان يخرج من رأس القتيل أو عنقه، فيظلُّ ينوح عند قبره إلى أن تأخذ عشيرة المقتول بثأره من قاتله، فيطير ويختفي في الفضاء الرحب. وقد عُرف هذا الطائر في المعتقدات العربية ب «طائر الصدى»، تسمية اختارها الكاتب السوري الشاب مناف زيتون عنوان روايته الثانية بعد باكورته الأدبية «قليل من الموت». يدخل القارئ عالم هذه الرواية، وفي ظنّه أنه سيتابع أحداثاً واقعية تستقي تفاصيلها من المأساة السورية الراهنة. وقد يتولّد هذا الانطباع لديه لمجرّد الاستدلال بالمعنى الكامن وراء العنوان، أو استناداً إلى جنسية الكاتب (السوري)، أو ربما من الغلاف الذي يوحي بالسجن والموت والدمار. ولكن، صفحة تلو أخرى، تتبدّل رهانات القارئ وتتراجع توقعاته، ليجد نفسه فجأة أمام حبكة صادمة وأحداثٍ غير متوقعة. بل إنه يرى نفسه متورطاً في صلب الرواية، فيغدو على مسافةٍ قريبة ممّا يُروى له. يخاطبه الراوي باسمه، يذكر اسمه صراحةً، يتوجّه إليه، يسترعي انتباهه، يحشره في سياق الأحداث ويضعه مباشرةً وسط المحكي. «طائر الصدى» (دار نوفل، أنطوان)، رواية تتلاشى فيها الخطوط الفاصلة بين المستويات السردية، فتتداخل صورة الراوي (الجوّاني الحكاية) مع الكاتب، ويصير القارئ الذي ينتمي أصلاً إلى عالم الواقع هو المروي له داخل الرواية وبالتالي جزءاً من عالم وهمي يبنيه الكاتب. وكان يُمكن اعتبار هذه اللعبة السردية سمة الرواية الفنية لو أنّ مناف زيتون اشتغل عليها في شكل أعمق، كأن يُعطي مبرراً يسمح برسم ذاك الخطّ المباشر بين الراوي والقارئ «المتورّط» عبر استخدام تقنية الرواية داخل الرواية مثلاً، باعتبار أنها تستدعي وجود قارئ «مُحتمل»، من شأنه أن يقرأ الكتاب، وهو يختلف في طبيعته عن القارئ الحقيقي الذي سيقرأ الكتاب فعلاً. بين عالمين بين الحلم واليقظة تتحرّك رواية مناف زيتون، فتغدو قراءتها أشبه بسفرٍ برزخي بين الواقع والخيال. تتوالى الأحداث وتتصاعد ضمن مسارين متقاطعين تُحدّدهما علاقة الراوي (أميّة) بصديقته رنوى من جهة، وب «الصوت»، قرينه، من جهة أخرى. تنطلق أحداث الرواية من بداية علاقة تنمو بين أميّة وزميلته رنوى، ابنة زعيم لا يمنحها أكثر من المال. أحداث يسرد الراوي تفاصيلها، بدءاً من خدمة توصيله بسيارتها الألمانية البيضاء وصولاً إلى الغرفة التي جمعتهما، لينقطع السرد في لحظة الذروة، حيث يتداخل صوت رنوى الأنثوي بصوت ذكوري آخر، يتسلّل إلى أذني الراوي صافياً بلا شوائب قبل أن يختفي فجأة. هكذا، يكتشف القارئ في نهاية الفصل الأول أنّ النص الذي افتتح به زيتون روايته لم يكن إلاّ حلماً راود الراوي ليقلب إيقاع حياته رأساً على عقب. ذاك الحلم كان أشدّ حقيقة من الواقع نفسه: حواسه كلّها كانت متفتحة، إحساسه بالأشياء عالٍ، التفاصيل الدقيقة حاضرة... هذه الأمور مجتمعة جعلت أميّة يشك في أنّ ما رآه ليس أكثر من حلم عابر. لذا، يقرّر أن يتبّع الرؤية عساه يُدرك مدى واقعيتها. يتودّد أمية إلى رنوى، زميلته التي شاركته سريره في الحلم، فتتطوّر علاقتهما ليتحقّق الحلم فعلياً ويكتشف من ثمّ أنّ تفاصيل الرؤية «الغريبة» هي بمعظمها حقيقية: رائحتها، ملمسها، عنوان سكنها، خريطة منزلها، شكل غرفتها، علاقتها بأبيها... إذاً، يبدأ الحلم في الرواية على شكل «خديعة» استخدمها الكاتب في مفتتح النص ليوهم القارئ بأنه الحدث الواقعي الذي منه تتفرّع بقية الأحداث. والخديعة هنا مقصود بها التقنية الأدبية المعروفة، وهي عبارة عن معلومة يبثّها النص على سبيل التمويه بغية إفساد حسابات القارئ وانطباعاته الأولى، وتعزيز عنصري المتعة والتشويق لديه. ومع أنّ رواية مناف زيتون لا تنتمي إلى خانة الأعمال البوليسية أو رواية المغامرات، يبقى الاكتشاف عنصراً من عناصرها الرئيسة. فالراوي هو شاب غامض لا يعرف من حوله الكثير عنه، بل لا يعرف هو الكثير عن نفسه. إنه يعيش وحيداً في الشام مع والدٍ يلعب دور الأم والأب داخل المنزل. لا صلة تجمعه بقريته في «حمص» ولا بأحد من أفراد عائلة والده أو والدته المتوفاة. لا علاقة له بأبناء الحيّ، ولا بدكان والده الذي يعتاش منه. علاقاته محدودة أيضاً داخل الجامعة. لا يعرف شيئاً عن النساء، ولا عن دينه، هو المسلم الذي قلّدته أمه المسيحية قبيل وفاتها سلسلة فيها صليب، لتكون هي الشيء الوحيد الذي يربطه بها. تتتابع أحلام الراوي وتتكامل كقطع من البازل الصغيرة لتُشكّل أخيراً لوحة واضحة المعالم. تتسارع وتيرتها لكي تحتلّ في حياته مساحة أكبر ممّا يحتلّه الواقع نفسه. تترافق تلك الأحلام دوماً و «صوتاً» غريباً يجهل مصدره. هو يشعر بوجود «الصوت»، بل بأنفاسه، من غير أن يتمكّن من تحديد هيئته. فمرّة يأخذ الصوت شكل أبيه ونبرته، وأخرى شكل رنوى وحشرجاتها. وفي أحيانٍ كثيرة يظلّ الصوت شبحياً، لكنه يستولي على حواس أمية ويشلّ حركته وقدرته على الكلام والحركة: «سمعت صوت تنفّس ضعيف، بعض الهواء بات قريباً من وجهي، عديم الهوية الحرارية، له وجود وكثافة فقط، لم يكن بارداً، لم يكن ساخناً، كان هواءً، فقط هواء... لم يكن بإمكاني قول شيء ولو في سرّي. لم يبدُ ذلك ممكناً. الصوت لم يكن قريباً، ولم يكن بعيداً، بدا كأنه يخرج من داخلي...». أحلام ممكنة فصلاً بعد فصل، يكتشف القارئ أنّ الأحلام هي التي تُمهّد للأحداث، بل إنها تُحرّك الأفعال. أمّا «الحالم» نفسه، فتتبدّل نظرته أيضاً إلى تلك الأحلام. وبدلاً من وصفها بأنها «مرض نفسي»، تُصبح هي «رسائل» يحتاج إليها لفكّ طلاسم طوّقت حياته وجعلته هو الغريب دوماً، حتى وإن وقف عارياً أمام مرآته، أو ربما ذاته. ثم تغدو الأحلام التي تُسيّر حياته ميزةً تُسطّر تفوّقه على الآخرين. الصوت الذي دلّه على رنوى في المنام هو نفسه الذي يُخبره بدنوّ أجل والده، والذي يُنقذه بعدها من عجز مادي وقع فيه قبل أن يقوده أخيراً إلى بيت سلام، والدة رنوى، في اللاذقية، حيث يكتشف حقيقة مقتل والدته التي لا يعرف عنها أكثر من اسمها وديانتها. تتعرّف سلام إليه من السلسلة التي يضعها حول عنقه، فتحاول أن تخفي عنه حقيقة عمد الجميع الى إخفائها طوال سنوات. لكنّ أمية يربط أحلامه بعضها ببعض: مشهد المرأة المقتولة، الدماء المتناثرة، الكنيسة، سلام... وبتأثير من هذه الوقائع/ الأحلام، يذهب الراوي إلى والدة رنوى ويُجبرها على إخباره بالحقيقة كاملة، ليكتشف أخيراً أنّ والدته تقلا (المسيحية) أحبّت والده (المسلم)، ولمّا واجهتها العائلة بالرفض وعمدت إلى تزويجها من رجل مسيحي ذي نفوذ كبير، قررت الهرب مع حبيبها، لتُقتل أمام عينيّ صديقة عمرها سلمى في المستشفى بعد أيام على ولادة ابنها أمية. بطل الرواية الذي تربّى على يد أبٍ يؤمن بمقولة «العين لا تعلو على الحاجب»، وجد نفسه فجأة أمام ظروف تسمح له بأن يصنع فلسفته الخاصة. بلى، «العين تعلو على الحاجب وتقتله إذا شاءت»، يقول أمية بعد قتله «قاتل أمه»، الزعيم الكبير، طليق سلام ووالد رنوى التي لم تعرف شيئاً عن سرّ يربط أمية بوالديها. لغز الأحلام يستمرّ حتى نهاية الرواية حيث يتيقّن القارئ أخيراً من أنّ الصوت «الغامض» إنما هو طائر الصدى الذي ظلّ ينوح طوال عقدين إلى أن أخذ الإبن بثأر أمّه. في تلك المساحة الملتبسة بين الحلم والواقع، استطاع أمية أن يجرّب العشق والخوف والموت والحياة. أن يحبّ وأن يَقتُل. أن يتقصّى ماضيه ويستشفّ مستقبله. هناك فقط واجه الشاب «الهادئ» مصيره الصاخب وحيداً.