هي ثلاثة مشاهد متزامنة تقريباً دارت في أنحاء متفرقة من فرنسا، لا بد من وضعها في الاعتبار لدى أي حديث عن محصّلة ما لمهرجان «كان» السينمائي بعد انقضاء فعاليات دورته السادسة والستين. المشهد الأول يدور في قاعات المجلس النيابي الفرنسي حيث صوّت النواب بغالبية مريحة لمصلحة قانون يسمح بالزواج بين المثليين جنسياً، قبل ان يوقّع رئيس الجمهورية على القانون فيصبح ساري المفعول وتنضم فرنسا الى بضع عشرة دولة تريد ان تُمعن في دخول حداثة ما من هذا الطريق. المشهد الثاني يتوزع على عدد كبير من مدن فرنسية وأبطاله عشرات الألوف من اليمينيين المتطرفين والمحافظين الأقل تطرفاً من الذين اندفعوا يحتجّون على ذلك القانون مصطدمين بالشرطة في شكل دامٍ أحياناً. أما المشهد الثالث فمسرحه مهرجان «كان» السينمائي الدولي... وهذا المشهد الأخير يتألف من فصلين، امتد اولهما على طول ايام المهرجان حيث لفت الارتفاع النسبي في عدد الأفلام المعروضة في شتى التظاهرات تعالج حكايات أبطالُها مثليون جنسيون، ودار الثاني في حفل الختام حيث كان لافتاً، إنما غير مفاجئ، أن تُمنح السعفة الذهبية للفيلم الأكثر دنواً من مسألة المثلية الجنسية، «حياة آديل» للمخرج الفرنسي التونسي الأصل عبداللطيف كشيش، فيما منحت إحدى اهم جوائز تظاهرة «نظرة ما» لفيلم آخر هو «مجهول البحيرة» الذي جرى الإجماع على انه الأكثر جرأة في الدنو من المسألة نفسها. عن الضغوط والتحدي لسنا ندري بالطبع ما إذا كان ثمة ترابط حقيقي او سببية ما بين المشهدين الأولين والمشهد الثالث، غير ان متابعة حجم الضغوط الصحافية والثقافية التي مورست على محكّمي «كان» وعلى رأسهم ستيفن سبيلبرغ، منذ عرض «آديل»، في اتجاه منح هذا الأخير الجائزة الأسمى، تعطي صدقية لأولئك الذين رأوا في مشهد ختام المهرجان نوعاً من الرد على تظاهرات اليمينيين والاستجابة لضغوط الآخرين. غير ان هذا لا يعني ان المسألة جرت ميكانيكياً على هذا النحو. ذلك أن حتى الذين لم يستسيغوا إعطاء السعفة ل «واحد من اكثر الأفلام الكانيّة إباحية منذ «امبراطورية الحواس» لناغيزا اوشيما»، لم ينكروا على فيلم عبداللطيف كشيش بعض قيم سينمائية حقيقية يتمتع بها. لكن هذا شيء ومنحه الجائزة الأكبر شيء آخر تماماً. ولئن كنا في رسالة سابقة قد أشرنا الى هذا، فإن ما سيكون مفيداً التوقف عنده هنا، هو ان «حياة آديل» على رغم سينمائيته القصوى – في بعض لحظاته على الأقل – لا يمكن ان يكون من تلك الأفلام الكبيرة التي قد تعتبر علامة فارقة في تاريخ السينما. وربما يعود ذلك، بالتحديد، الى اننا هنا في مواجهة فيلمين وليس فيلماً واحداً. والحقيقة ان الخلط بين الفيلمين في المناقشات والسجالات الحادة – والوحيدة في طول المهرجان وعرضه إذ لولا هذا الفيلم لمرّ المهرجان كله بليداً هادئاً – هو الذي افقد الكثيرين البوصلة... وأبعدهم كثيراً عن السينما ليضعهم في قلب المسألة الأخلاقية مرة واحدة. ولا يمكن لومهم في هذا على اية حال، لأن افلاماً من هذا النوع يصبح فيها السجال الأخلاقي شجرة تخفي غابة البعد السينمائي... وفي هذا الإطار تصبح خارج المكان تأكيدات للمخرج جان – لوك غودار مثل تلك القائلة: «حتى الترافلنغ في السينما مسألة أيديولوجية». فيلمان في «حياة آديل» لا فيلم واحد؟ بالتأكيد... بالنسبة الينا على الأقل. هناك فيلم يروي الحكاية: حكاية المراهقة المتعطشة الى الحياة والحب والمتمردة بهدوء على واقعها، والمبتئسة حتى تلتقي فتاة أخرى ترى فيها مثلاً أعلى لها فتغرم بها وتقوم بين الإثنتين علاقة ستنتهي بعد ساعات الفيلم الطويلة والمتعبة، الى الفراق... بل أكثر من هذا، ونحن هنا امام تفصيل أخير لاحظنا انه فات كثراً الالتفات إليه، ستنتهي الى اقتراح موارب بأن المراهقة بعد التأكد من انفصام علاقتها نهائياً بصاحبتها، قد تكون – في اللقطة الأخيرة على الأقل – في طريقها الى علاقة «اكثر سوية وطبيعية» مع شاب وليس مع فتاة هذه المرة. هذا هو الفيلم الأول. أما الفيلم الثاني فهو ذاك المؤلف من سبعة مشاهد او ثمانية، هي من دون ادنى ريب، المشاهد الأقوى والأجمل في شكل لا يقاس في الفيلم. المشاهد التي حملت كلّ قوته وربما تكون هي التي جعلت ستيفن سبيلبرغ يقول بعد إعلان النتائج ان هذا الفيلم قد «هزّ اعضاء لجنة التحكيم هزة قوية». لكن هذه المشاهد هي، من دون مواربة، المشاهد الإباحية في الفيلم، تلك التي رآها كثر «ايروسية» فيما رآها آخرون إباحية، وربما لا نكون مغالين إن قلنا ان السجال الأكبر دار من حول ايّ المصطلحين نستخدم. بالنسبة الينا، في مثل هذا الفيلم تنعدم الفوارق. فالإباحية هنا ماثلة بقوة وتصل احياناً الى حد الابتذال. ومع هذا، لا بد من ان نسجل للمخرج اعتناءه بهذه المشاهد بالتحديد وخصّها بتصوير للأجساد جعل لقطاتها تبدو اشبه بمنحوتات هنري مور، حيث تتحول الأجساد الى كتل وعالم تبدو قائمة في ذاتها... ولنعترف هنا، مهما كان اعتراضنا على الفيلم وجائزته كبيراً، بأن هذه اللقطات أتت مبهرة. وكذلك اتى مؤثراً وجارحاً ذلك المشهد الرائع في المقهى للقاء المدمّر بين الفتاتين بعد انفصالهما. هو بالتأكيد واحد من المشاهد الأكثر قوة وميلودرامية وجرحاً في السينما المعاصرة. اين السينما إذاً؟ ولكن يبقى هنا سؤال: منذ متى تُحسب قيمة فيلم انطلاقاً من مشاهد معينة فيه مهما كان مقدار الإبهار الجمالي فيها؟ نطرح هذا السؤال وفي ذهننا الفيلم الأول الذي أشرنا اليه: ذاك الراوي حكاية اللقاء والغيرة والانفصال بين الفتاتين. حفلات الرقص ومآدب الطعام الكثيرة هنا (كثرتها في كلّ افلام عبداللطيف كشيش الذي يصل احياناً الى جعلها موضوع فيلم له!). الفيلم الأول هذا لا يبدو في موضوعه بعيداً من تلك التي تملأ مجلات القصص المصورة التي كانت منتشرة في صحافة الخمسينات والستينات من القرن الماضي وفيها حكايات الحب والغيرة ولقاءات الصدفة والأمل وخيبته... والحقيقة ان الموضوع الأساس لفيلم عبداللطيف كشيش لا يخرج عن هذا النطاق – ولا ننسين هنا النهاية الأخلاقية الواضحة! – النطاق الذي يمكن العثور عليه حتى في روايات السيدة الزهرية باربارا كارتلاند العاطفية المدرّة للدموع. ولا شك في ان كشيش كان يعرف هذا، لكن هذا السينمائي الذي يحتضنه الفرنسيون بقوة، والذي، بعد ان مثّل في عدد من الأفلام التونسية، انصرف الى الإخراج فحقق حتى الآن وقبل «حياة آديل» اربعة او خمسة افلام – من ابرزها «غلطة فولتير» و«ايام الكسكسي» و«التملص» و«فينوس السوداء»-، وهي افلام نجحت تجارياً بقوة ونقدياً بحدود. وكشيش يتمتع يشطارة وذكاء لافتين مكّناه من ان يمزج، في «حياة آديل» في شكل خلاق، بين حكاية الفيلم الأول الذي لا جديد فيه ولا يتمتع بأية قيمة فنية حقيقية، وبين روعة «الفيلم الثاني» الجمالية المدهشة، إنما المجانية بالتأكيد في إباحيتها، فكانت النتيجة فيلماً يوصف الآن بأنه من علامات الزمن، وبالتالي نال سعفة ذهبية لا شك ستُنسى بعد حين كما بات يحدث لسعفات ذهبية كثيرة فاجأت المراقبين وأغاظتهم ثم نُسيت قبل مرور فترة طويلة... وربما بعد انتفاء الحاجة اليها في المعركة التي يعبّر عنها المشهدان اللذان تحدّثنا عنهما اول هذا الكلام.