عندما أقام السوفيات دولة اشتراكية، قيل على الفور ان جمهورها أو سندها هو شعب الطبقة العاملة في القسم الشرقي من دولة ألمانيا، وذلك إثر الهزيمة الساحقة التي أحاطت بهتلر ونازييه مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، وكان الشعار الأول لتلك الدولة ان تخدم مصالح «جماهير العمال»، بل ان اسم الحزب الحاكم (الشيوعي من دون ان يحمل، كما جرت العادة في مثل تلك الأحوال هذا اللقب) كان مستقى مباشرة من هؤلاء العمال. ومع هذا، ما إن ترسخ الأمر للسلطات الاشتراكية الحاكمة، وبدا ان الحرب الباردة ستهدئ اوضاع الداخل لحساب مفاقمة الصراع مع الخارج، اي مع العالم الرأسمالي، حتى قامت اول انتفاضة او ثورة جدية، في القسم الشرقي (اي الاشتراكي الخاضع للسوفيات) من مدينة برلين. وكان اصحاب الانتفاضة، تحديداً، أبناء الطبقة العاملة الذين – ويا لغرابة الأمر! - ثاروا ضد السلطات الاشتراكية الحاكمة باسمهم، تماماً كما سيفعل «رفاقهم» البولنديون بعد ذلك بربع قرن، حين تجمعوا في اتحاد عمالي نقابي كبير عرف باسم «التضامن» وحاربوا سلطات الحزب الشيوعي هناك، حتى اللحظة التي هزموه فيها. ونعرف طبعاً ان معركة اتحاد «التضامن» كانت، إضافة الى التدخل السوفياتي في افغانستان والكثير من المساوئ التي استشرت في بلدان ما كان يسمّى بالمنظومة الاشتراكية، القشة التي قصمت ظهر البعير، اذ أدت الى انهيار هذه المنظومة الاشتراكية ككل، غير ان هذه حكاية اخرى، ليس مكانها هنا... بخاصة ان «الثورة» التي نتحدث عنها كانت مبكرة جداً، لذلك هُزمت بسرعة، ونُسيت حتى من جانب الذين ناصروها، في العواصم الغربية. لكن الفن، كعادته، لم يكن من الذين ينسون... والفن تجسّد في الحال التي نتناولها هنا، في رواية صدرت العام 1974 في عنوان «اسبوع في يونيو»، من تأليف ستيفن هايم. صحيح ان هذه الرواية، حين صدرت للمرة الأولى لم تصدر في ألمانيا، بل في الولاياتالمتحدة، ومع هذا علينا ألا ننسى هنا ان هايم نفسه كان ألمانياً... بل الأكثر من هذا انه كان، منذ العام 1952 مناصراً للشيوعيين، وأنه عاش احداث الأسبوع الذي يتحدث عنه، من موقعه كشيوعي... ولا بد من ان نذكر في هذا السياق ان هايم الذي كان هاجر من ألمانيا الى الولاياتالمتحدة الأميركية هرباً من الحكم النازي في العام 1933، كان جند في الجيش الأميركي في العام 1945 لكنه سرعان ما سرّح مطروداً بعد عامين بتهمة الشيوعية. من هنا، إذا كانت رواية «أسبوع في يونيو» تتميز بشيء معين، فإنما تتميز بكونها تروي الأحداث من الداخل: من داخل ألمانياالشرقية، ومن داخل ثورتها العمالية التي اندلعت - ولا بأس في التذكير بهذا مرة اخرى - ضد السلطات الحاكمة باسم الطبقة العاملة. ونعرف ان كل «الأدبيات» والدراسات التاريخية التي تناولت تلك الانتفاضة الأولى، في العالم الاشتراكي بعد الحرب العالمية الثانية، انما كتبت من الخارج وفي الخارج، واتهمها «الاشتراكيون» عن حق غالباً بأنها «فُبركت» في مطابخ دوائر الاستخبارات الغربية. والحقيقة ان من يقرأ «اسبوع في يونيو» يتساءل بدهشة: ولم احتاجت تلك الدوائر الى فبركة نصوص، وأمامها هذه الرواية القوية والصادقة التي تروي فصولاً عيشت بالفعل؟ المهم ان ستيفن هايم قدم هنا، في شكل روائي أخاذ، رؤيته لحال ألمانياالشرقية - بل ربما ألمانيا كلها اذا وسّعنا دائرة الرؤيا - وكانت لا تزال، بعد، مدمرة تعاني آثار الحرب وويلات خرابها. الشخصية المحورية في الرواية هي «فيت» وهو الممثل الرسمي لنقابات العمل في احدى المؤسسات. انه شخص مناضل عنيد يحترمه اصحابه ورفاقه جميعاً. بيد ان ما بدأ يحزن فيت عند مرحلة اولى من مراحل الرواية، كان ملاحظته تلك الهوة التي اخذت تتسع بين مصالح العمال ومصالح السلطات الحاكمة. وسيزيد من حدة الأمر ان حكومة اولبريخت التي أوصلها السوفياتيون الى السلطة، راحت تلحّ على عمال المصانع لكي يزيدوا، في شكل ملحوظ، من وتيرة الإنتاج ونتائجه، في الوقت الذي جمّدت الأجور عند الحدود الدنيا، وراحت المخازن الكبرى تفرغ من المؤن، حتى الأساسي منها، لتباع هذه في السوق السوداء بأسعار باهظة. كان لا بد لهذا كله من ان يحدث انفجاراً كبيراً في نهاية الأمر. وهذا الانفجار حدث، بالفعل، في شهر حزيران (يونيو) من عام 1953. وقد بدأ الانفجار على شكل اضراب بدأه عمال البناء، ثم راحت تنضم إليه بقية الاتحادات والنقابات العمالية، ولم تجد حكومة برلين وسيلة للرد، سوى استدعاء الدبابات الروسية التي ظهرت فجأة، وبسرعة مدهشة في الشوارع، مُجابهةً كل تحرك عمالي. وهنا في هذا القسم من الرواية حيث يروي الكاتب الأحداث ساعة بساعة على شكل فقرات سريعة تبدو اشبه بسيناريو معدّ لفيلم سينمائي، تتكاثر بيانات الحكومة والبلاغات التي تصدرها قيادة القوات الروسية، وفي مقابلها تصدر بيانات غربية مضادة، وتلعلع اذاعات ألمانيا الغربية، من اميركية او حليفة بالأخبار المضخمة. وكان من الطبيعي لهذا كله ان يلقي بثقله على الأحداث... ثم بالتحديد على بطل الرواية فيت. فهو، وعلى عكس معظم عمال برلين من الذين اربكهم ذلك كله وراحوا يتخبطون في خضمه متأرجحين بين مبادئهم الثورية وحرصهم على حزبهم وجمهوريتهم، وبين ما يرونه من قمع بأم اعينهم... بين الوقوف في موقع يقرّبهم من الرأسماليين، وبين ايجاد حلول تحفظ لهم كرامتهم وعقائدهم، فيت على عكس هؤلاء لم يباغته ما يحدث، فهو منذ البداية كان يعرف ان الانفجار سيحدث لا محالة، وأن مواقف الأطراف ستكون على تلك الشاكلة: سيزداد قمع الشرق، وسيزداد نفاق الغرب ومحاولته الإفادة من كل ما يحدث. هو كان يقول منذ البداية ان السبب في ذلك كله، ليس الدعاية الغربية ولا عداء الناس لسلطاتهم الحاكمة، بل فقدان الديموقراطية من ناحية، وفقدان الثقة بين الشعب وحكومته من ناحية ثانية، اي غياب العلاقات الصلبة الوثيقة بين الطبقة العاملة وحزبها. والحقيقة ان موقف فيت الذي تبنّاه الكاتب كلياً، هو الموقف الذي سرعان ما يجد القارئ نفسه مناصراً له... بمعنى ان القارئ سرعان ما يفهم، عبر التحليل الفكري والفني المتدرج، كيف تتطور الحركة في شكل تدريجي، مستفيدة من أخطاء السلطات، غير آخذة في الاعتبار مواقف الغرب... وهكذا، إذ تتراجع السلطة معلنة تعديل مطالبها في ما يخص انماط الإنتاج ووتيرته، ستكون الحركة الشعبية انتقلت الى مرحلة جديدة اخرى من مطالبها: إجراء انتخابات حرة لا تتدخل فيها السلطات الروسية، على ان يسبق هذا تشكيل حكومة محايدة (ترى، هل يذكّر كل هذا، قارئنا بشيء ما؟) طبعاً، في هذا كله لا يهم كيف ستنتهي الأحداث. ذلك ان انتهاءها ليس موضوع الرواية: موضوعها هو ذلك الإخفاق الثوري الكبير، حين تتحول سلطة حزب ثوري الى سلطة بيروقراطية كئيبة تقمع اول ما تقمع جمهورها نفسه. بيد ان ستيفن هايم لا يبدو، على رغم ذلك كله فاقداً للأمل... إذ ان موقف فيت الإنساني الساعي نحو «اشتراكية انسانية حقيقية لا تدمرها بيروقراطية الحزب»، هو الموقف الأساس في هذا العمل. وستيفن هايم المولود في العام 1913، كان عند بداية انتمائه الى الحزب الشيوعي الألماني اشبه بكاتب رسمي للحزب، لكنه سرعان ما راح يصير اكثر وأكثر انتقاداً، ولكن على يسار الحزب لا على يمينه... وهو منذ ذلك الحين، راح ينشر كل كتبه في الغرب، ومنها: «الصليبيون» و «عيون العقل»... اما روايته الأشهر «اسبوع في يونيو»، فإنها لم تنشر في ألمانيا إلا في العام 1989، بعد سقوط النظام الاشتراكي فيها. [email protected]