يومان آخران ويختتم مهرجان «كان» السينمائي عروض دورته السادسة والستين ويوزع جوائزه التي يتطلع كثر إليها ولا سيما منها «السعفة الذهبية» التي تعتبر واحدة من أهم الجوائز السينمائية في العالم. حتى الآن، وعلى عكس ما كانت الأمور عليه في بعض الدورات الأخيرة، لا يبدو من السهل التكهن بالفيلم الذي يبدو أشبه باليقين أن السعفة ستكون من نصيبه، والسبب قد يكون بسيطاً: حتى الآن ليس هناك أي فيلم انقضّ على المتفرجين كالعاصفة فأدهشهم بشكل استثنائي وجعل نوعاً من الإجماع المسبق من حوله. وإلى هذا ثمة مزاجية لا يمكن توقعها بسهولة لدى لجنة التحكيم بشكل عام ورئيسها ستيفن سبيلبرغ بشكل خاص.... ثم لم ينته كل شيء بعد فما زالت عند كتابة هذه السطور عروض عدة في الأفق ومعظمها لأفلام تحمل الكثير من الوعود والتوقعات. ومع ذلك كله قد يمكن المراهنة منذ الآن على ثلاثة أو أربعة أفلام تبدو بارزة بشكل ما في تفضيلات المرء كمحبّ للسينما ولما تقدمه من جديدها على الأقل. نقول هذا وفي ذهننا مثلاً فيلم الأخوين كون «داخل لوين دايفيز»، وفيلم الإيراني أصغر فرهادي «الماضي» وربما أيضاً فيلم الكيتش الصاخب «حياتي مع ليبراتشي» لستيفن سودربرغ – الذي قد يرتدي أيضاً جزءاً من أهميته انطلاقاً من قوانين زواج المثليين التي كانت فرنسا آخر من يشتغل عليها قانونياً في أوروبا حتى الآن! -... أما الفيلم الذي يحمل عناصر عدة تؤهله ليكون من دون تردد ضمن هذه اللائحة، فهو بالتأكيد «الجمال العظيم» للإيطالي باولو سورنتينو. أما العنصر الأبرز من بين هذه العناصر فهو كونه أعاد إلى «كان» بعد غياب طويل، ساحر السينما الإيطالية الكبير فدريكو فلليني بعد عشرين عاماً من رحيله. أنطولوجيا فللينية طبعاً لا نعني بهذا أن الفيلم عن فلليني أو أن هذا الأخير يظهر فيه، بل نعني أن تمعّنا في «الجمال العظيم» سوف يجعله يبدو لنا وكأنه أنطولوجيا لشيء من سيرة فلليني السينمائية... حيث ثمة في الفيلم ما يذكر بما لا يقل عن نصف دزينة من أفلام صاحب «دولتشي فيتا» و «ثمانية ونصف»... ذلك الفنان الكبير الذي اعتاد «كان» واعتاده هذا الأخير إلى درجة أن سؤالاً طرح لدى رحيله عن كيف ستقوم للمهرجان قائمة من دونه. هكذا إذا، استحضره سورنتينو في «الجمال العظيم» ولكن ليس في شكل مباشر ولا من طريق المحاكاة. بل ربما من طريق ينطلق من سؤال قد يكون سورنتينو طرحه على نفسه ذات يوم وهو يشاهد – للمرة المئة – تحفة فلليني «دولتشي فيتا»: ترى لو كان فلليني لا يزال اليوم حياً بيننا وأراد أن يتساءل سينمائياً عما آلى إليه مصير مارتشيللو – الشخصية المحورية التي لعبها مارتشيللو ماستروياني في ذلك الفيلم الذي صار اليوم كلاسيكياً ومرجعاً – بعد مشاهد النهاية حين ينظر بحيرة إلى الصبية الحسناء متسائلاً عمن تكون على الشاطئ، كيف كان سيرسم الشخصية ومصيرها في فيلم جديد قد يود تحقيقه اليوم وقد شارف مارتشيللو الذي كان عشرينياً يوم تحقيق «دولتسي فيتا»، على السبعين اليوم؟ لسنا على يقين طبعاً من أن سورنتينو طرح السؤال على نفسه في هذا الشكل على الأقل، ولكن كل شيء هنا يذكر بمارتشيللو القديم. ناهيك بأن كل شيء أيضا يذكر بروما فلليني، طالما أن «الجمال العظيم» هو أساسا فيلم عن روما اليوم، روما منظور إليها بعيني مارتشيللو السبعيني كما أن مارتشيللو القديم أمضى وقته يجول في روما الخمسينات والستينات ويتأملها... فإذا أضفنا إلى هذا فصول الفيلم المتحدثة عن الراهبة القديسة والتي تذكر هي والكاردينال ببعض ملامح فيلم آخر لفلليني هو «ساتيريكون»... وفصولاً تصور الانسداد الإبداعي لدى بطل الفيلم وتحيلنا إلى أزمة فلليني الإبداعية في واحد من أجمل أفلامه «ثمانية ونصف»، سنجدنا بالتأكيد وسط أسئلة فلليني وقلقه. ومع هذا لا بد لنا أن نصدق سورنتينو حين يقول بعد «اعترافه» بهذا كله، أن أفلاماً مثل «دولتشي فيتا و «روما فيلليني» – ويضيف إليها الحديث عن مشاهد من «الشرفة» لإيتوري سكولا -، تشاهد بقوة لكنها لا تحاكى أو تقلّد أبداً. نصدقه لأننا هنا، وبعد كل شيء، أمام فيلم ينتمي إليه مباشرة. يحمل نظرته إلى روما وقلقه وأسئلته، ناهيك بأنه رسم الدور فيه لممثله المفضل توني سيرفيلو الذي رافقه في العدد الأكبر من أفلامه حتى اليوم. ومن هنا بالتأكيد لم نعد أمام مارتشيللو ماستروياني ولا أمام فلليني. بل صرنا في مواجهة سينما سورنتينو كما عايشناها في «الديفو» – عن رئيس حكومات الديموقراطية المسيحية جوليو أندريوتي – وفي «نتائج الحب» كما في «صديق العائلة»، وبخاصة في العام الفائت في «لا بد أن هذا هو المكان» الذي صوره في أميركا من بطولة شون بين: سينما قائمة على الرصد وتشظي اللغة السينمائية وسلبية الشخصية المحورية وإعطاء الأهمية الأساس للمكان، إضافة إلى محاولة الشخصية التخلص من عبودية الزمن لها... الماضي الذي يعود كل هذا نجده هنا من خلال الرسم المدهش في «الجمال العظيم» لشخصية البطل الذي يعيش مبدئياً حياة نجاح فاقع وثراء لافت بعدما عمل في الصحافة الفنية الاجتماعية وصار واحداً من نجوم الحياة الفنية والثقافية يتنقل من نجاح إلى آخر ومن علاقة إلى أخرى ويعيش متخماً بالأصدقاء... غير أنه يشعر الآن أنه غير قادر على التخلص من عبء الزمن المداهم، فيزداد كآبة ولؤماً وتهكماً بين سهرة وأخرى ولقاء وآخر، وكل هذا على خلفية صيف روماني مدهش ورصد لروما وسياحها من شرفته الساحرة المطلة على الكوليزيه، معلم روما السياحي الأول. وهو رصد صورته كاميرا المخرج وسيناريو الفيلم أشبه بلوحة أخّاذة لعالم صاخب يعيش انهياره وفوضاه بما يزيد ألف مرة عما كانت عليه الأمور مرة في «دولتشي فيتا» ومرة على الأقل في «روما فلليني» إن كل شيء لدى هذا الوجه الاجتماعي يبدو صاخباً ومثيراً للإعجاب، لكنه هو نفسه ليس سعيداً ولا تشعره روما اليوم بالسعادة. بل يشعر بأن المدينة تعيش آخر أيامها كما يعيش هو آخر ايامه. وهذا الوضع يدفعه ضمنا الى مجابهة الفشلين الكبيرين في حياته: الرواية التي كتبها قبل زمن غابر وحققت له نجاحاً ومكانة ثم «أخفق» في كتابة غيرها، والصبية التي لم يتمكن من الاستجابة إلى غرامها حين كان شاباً، ففقدها وبفقدانها سيمكن له وقد أضحى عجوزاً أن يكتشف أنه فقد كل شيء. وهذا ما يعيدنا مرة أخرى إلى اللقطة الأخيرة في «دولتشي فيتا» فلليني وإنما من دون أن يغيب عن بالنا لحظة أننا أمام فيلم جديد صنع في بداية العقد الثاني من هذه الألفية من قبل مخرج ينتمي إلى الجيل الثالث في السينما الإيطالية بعد فلليني. مخرج ربما يعيد السينما الإيطالية إلى زمن الجوائز الكبرى بعد سنوات طويلة من غيابها عنها.