لم يكن لأحد في سورية أن يتوقع دوام الثورة ضد النظام طوال هذه الفترة، أو أن تكون مدمرة ودموية الى هذا الحد، وبخاصة بعد وقوع أكثر من سبعين ألف شهيد وتهجير نحو ستة ملايين في الداخل وإلى دول الجوار، إضافة الى الدمار الهائل لبعض المدن والمناطق السورية. لم يسقط النظام حتى الآن، وربما يستمر في البقاء لفترة أطول، ولكن هناك شيء قد انهار لا يقل تسلطاً وهيمنة على نفوس السوريين، وهو جدار الخوف. لكن اليوم يُخاف من شيء أخطر وهو أن يأتي بعد الأسد شكل آخر من الديكتاتورية. فبعد تعهد المعارضة السورية بإدارة المناطق المحررة بدأت تنتشر المحاكم ذات الطابع «الشرعي»على نحو غير مسبوق، حيث شكّلت مجموعات إسلامية مقاتلة، في المناطق المحررة هيئات شرعية، كإدارات محليّة تتولى إدارة شؤون الناس في هذه المناطق وفق مبدأ العدالة التصالحية حيث تقوم بحل النزاعات بين الناس وليس إصدار الأحكام ضدهم، ومن بين المجموعات التي شكلت هذه الهيئات «جبهة النصرة» التي أدرجتها الولاياتالمتحدة على لائحة المنظمات الإرهابية، وضمت هذه الهيئات إلى جانب «الجبهة، «حركة أحرار الشام»، «لواء الاسلام»، «الهيئة الشرعية السورية»، «المجلس الاسلامي السوري»، إضافة الى تشكيلات أخرى. البداية طارق الصباغ عضو المجلس المحلي لمحافظة حلب يقول: «إن السبب الأساس وراء تشكيل هذه الهيئات هو تدخل رجال دين في تجنيد الأفراد لمصلحة الثورة والدعوة للجهاد في سبيل الله وحصولهم على أموال وتبرعات داخلية وخارجية لدعم الثورة، وهكذا حصلوا على دور في تشكيل الكتائب ودفع رواتب لها وهيمنوا وسيطروا عليها، وبغياب الحقوقيين والقضاة وتأخرهم عن اللحاق بالعمل الميداني خوفاً من بطش النظام وجبروته وحفاظاً على حياتهم وحياة أسرهم بدأ هؤلاء الشيوخ بتشكيل محاكم ثورية وحاولوا تطبيق أحكام الشريعة الاسلامية». يضيف: «لاقت الهيئة قبولاً شعبياً في البداية بعد قيامها باعتقال بعض الأفراد المفسدين في الكتائب ومتابعتها لشكاوى الناس تجاه ما يحدث من تجاوزات للجيش الحر، وتنظيم المناطق الصناعية الخاضعة لسيطرتها قدر الإمكان ومنع السرقات أيضاً، وسعيها لتأمين الأمور المعيشية لسكان المناطق المحررة من خبز ومواد أساسية، فأصبحت بديلاً من المحاكم المدنية، لكن المشاكل ظهرت عندما بدأت الهيئة التدخل في الأمور الحياتية لسكان المناطق المحررة، حيث ارتكزت على عنصر المال لشراء أطنان من الطحين بدلاً من دعم الحالة العسكرية، بعد ذلك قامت الهيئة مدعومة بعناصر مسلحة يمثلون «الشرطة القضائية» باعتقالات طاولت ناشطين مدنيين من أطباء ومحامين يتابعون أمور الخدمات في شكل عام، ومنها حادثة اعتقال الطبيب عثمان الحاج عثمان، على خلفية إزالته «علم التوحيد» من على سطح مشفى الدقاق الذي يعالج فيه ضحايا عمليات الجيش النظامي. فخرجت تظاهرتان في حيي مساكن هنانو وطريق الباب تستنكران اعتقاله، فيما منعت الهيئة الشرعية مجموعة من الشباب من الاعتصام أمام مبنى الهيئة وهددتهم بالاعتقال في حال عدم المغادرة فوراً. ويؤكد أنه جرت محاولات عدة لاستيعاب الهيئة والتنسيق معها وإقناعها بضرورة تركها العمل الخدمي والتزامها بهدفها الذي أُسست من أجله، لكن كل هذه المحاولات باءت بالفشل. هذه الظاهرة ليست محصورة فقط في حلب، بل انتقلت إلى مناطق أخرى، وصولاً إلى محافظتي الرقة ودير الزور (شمال شرقي سورية). وأظهر شريط فيديو على موقع «يوتيوب» موكباً يجول في محافظة دير الزور، قيل إنه «الاستعراض العسكري لشرطة الهيئة الشرعية» حيث أُعلن عن تشكيل «الهيئة الشرعية للمناطق الشرقية» في بيان موقّع باسم الهيئة المذكورة. إضافة الى عملها الشرعي، فالهيئة تضم مكاتب ولجاناً أخرى لتسيير شؤون المواطنين وملء الفراغ الأمني الذي تشكل في مناطق نفوذها، وهي تمتلك قوة تنفيذية سمّيت بشرطة الهيئة الشرعية، كما تضم مكاتب للإغاثة والدعوة والإرشاد والفتوى والخدمات والإصلاح وفض الخصومات. الناشط المدني عبدالقادر الهويدي من محافظة الرقة يرى في هذا الكلام مبالغة لأن تجربة الهيئة في محافظة الرقة تعتبر تجربة فاشلة وذلك لأسباب عدة منها «أنها لا تملك قاعدة شعبية، وأنها تعتمد على الكتائب المسلحة التي شُكِّلت حديثاً بعد تحرير المدينة، وهذه الكتائب بغالبها كما يقول مكونة من لصوص وشبيحة سابقين وأصحاب سوابق... عقارب وفق المصطلح الدارج»، إضافة الى التجاذبات السياسية في المدينة بين المجلسين المحليين المشكّلين الأول برئاسة عبدالله الخليل المقيم في مدينة أورفه التركية، والذي يدير مجلساً مدنياً غير منتخب ويحظى بدعم رجالات المعارضة السورية، والمجلس الآخر الذي حلّ نفسه بعد تحرير المدينة. هذه المعطيات عززت من هيمنة الهيئة الشرعية وجعلتها قادرة على فرض سلطة الأمر الواقع، ومحاولة عبدالله الخليل الحصول على صفة شرعية من الهيئة تخوله إدارة شؤون المحافظة». تجاوزات بالجملة يضيف الهويدي: «أخطاء الهيئة ظهرت منذ اليوم الأول لتحرير المدينة. فحركة «أحرار الشام»، أحد المكونات الأساسية للهيئة الشرعية المؤلفة من خمسة أعضاء، ثلاثة أطباء، أستاذ في الشريعة ومفتي الرقة السابق، قامت بالسيطرة على البنك العقاري الذي تُحوّل إليه رواتب الموظفين الحكوميين، إضافة الى خدمات أخرى، وأمام ضغط الشارع وبعد تظاهرات عدة قام بها الشباب المدني في المدينة، اضطرت الحركة لوضع الأموال تحت تصرف الهيئة لتقوم بتوزيعها نيابة عن النظام، وما حصل بعد ذلك أن الهيئة اشترت بتلك الأموال أسلحة ومضادات طيران، لكن أحداً لم ير أي شيء على أرض الواقع، فالرقة تقصف كل يوم بالبراميل المتفجرة، ولم يتوقف الأمر عند ذلك وفقاً للهويدي. فحملة الاعتقالات التعسفية من جانب الهيئة وإصدار أحكام قضائية مخالفة حتى للشريعة الإسلامية لا حصر لها ومنها مثلاً الحكم الصادر بحق فتاتين من المدينة، اتُهِمتا بالسفور حيث كلفت الهيئة قائد إحدى الكتائب «أبو إسلام» حالياً، «أبو النيس» سابقاً بإحضار الفتاتين، وبعد خروج تظاهرة حاشدة للمطالبة بإطلاق سراحهما، وجهت اليهما تهمة «الزنى» من دون وجود دليل شرعي، ووصل الأمر لحد اتهامهما بالعمالة لمصلحة الاستخبارات الأميركية»! لكن السؤال الملح من أين تحصل هذه الهيئات على مصادر للتمويل؟ وفق سامر س (ناشط إغاثي) «لا أحد يعلم مصدرها»، لكنه يرى أن أغلب من انضم الى الهيئات الشرعية هم ناشطون في مجال الإغاثة الإنسانية على ما يدّعون، مما وفر لديهم مصادر تمويل متعددة مثل جهات في المعارضة السورية وجماعات متشددة ، ومبالغ من التبرعات والمعونات المقدمة من جانب دول عربية وبخاصة دول الخليج العربي، لكن للأسف لم يقدِّم سوى الجزء اليسير للشعب السوري». علاقة غير شرعية وفق القاضي المنشق أنور مجني، عضو «مجلس القضاة الأحرار»، فإن الصراع بين المجلس المكون من مجموعة من القضاة المنشقين والقوى الإسلامية على تحديد السلطة القضائية التي ستفصل بين الناس لا يزال مستمراً. ويؤكد المجني أن المجلس يسعى إلى إقناع المشايخ عبر الكثير من المناقشات والحوارات بعدم التدخل بشؤون القضاء الذي يجب أن يستمد أحكامه من القانون السوري بما لا يتعارض مع الشريعة الإسلامية. وأضاف: «نسعى عبر مشروع العدالة الانتقالية إلى تشكيل قوى أمن داخلي من المنشقين عن النظام، تعمل بمعزل عن الكتائب المسلحة، مهمتها الرئيسة تطبيق القوانين». ويعترف المجني بأن مهمتهم كمجلس قضاء «صعبة جداً بوجود تشكيلات إسلامية متشددة ترفض رمي السلاح والخضوع إلى القوانين المدنية». كل ما سبق يشكل عدالة منقوصة ويؤسس لعدالة منقوصة مستقبلاً، فمن يحدد مصير القضاء في سورية المستقبل؟