مرت الذكرى الخامسة والستون لقيام إسرائيل بهدوء تام إلى حد الخجل إلا لدى الذين كوتهم نار الاحتلال في الضفة الغربية والقطاع، فكيف لهم أن ينسوا بطش الاحتلال وجوره وسحقه لهم يومياً؟ وفي هذه الذكرى نعود إلى بعض النصوص التاريخية للتذكير بها إنعاشاً لذاكرة البعض. وتتزامن هذه الذكرى مع انقضاء مئة عام (تقريباً) على وعد بلفور وعلى اتفاقات وتفاهمات سايكس بيكو الأولى. ولعل أفضل تعبير عن واقع نشأة إسرائيل ما كتبه آرثر كوستلر الكاتب الإنكليزي من أصل مجري ومن المذهب اليهودي في كتاب «تحليل معجزة»، أي معجزة إنشاء إسرائيل حيث يقول: «إن وعد بلفور إنما كان هبة أرض تخص أمة من قبل أمة إلى أمة أخرى، وهو يعني أن الأرض عربية وهبتها بريطانيا إلى الشعب اليهودي الذي كان مبعثر الوجود عبر العالم». وبهذه العبارة كان الكاتب الإنكليزي، المجري، اليهودي يترجم وعد بلفور (الثاني من تشرين الثاني/ نوفمبر 1917) أي الرسالة الموجهة من اللورد بلفور إلى «عزيزه اللورد روتشيلد». وفيها نقرأ: عزيزى اللورد روتشيلد، إنه لمن دواعي سروري أن أبعث إليك بالنيابة عن حكومة جلالته، بالتصريح الآتي المؤيد للمنظمات اليهودية الصهيونية التي قدمت إلى الحكومة ونالت الموافقة ومنها: «أي أن وجهة نظر حكومة جلالته تؤيد قيام وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين... وسأكون شاكراً لو تطلع هذا التصريح على الاتحاد اليهودي». وحملت الرسالة توقيع المخلص «آرثر جيمس بلفور». ولبنان قديم العلاقة مع فلسطين منذ نشأتها واغتصابها وحتى اليوم وفي العودة إلى بعض الوثائق التي نحتفظ بها نعثر على الوثيقة. ونريد في هذا المقال إشراك القراء بإطلاعهم على بعض وثائق تلك الحقبة التاريخية من الزاوية اللبنانية، ومن ذلك: البرقية التي بعث بها وزير لبنان المفوض في واشنطن الدكتور شارل مالك مساء 7 أيار (مايو) 1948، وفي ما يأتي نصها: تقدير عام للموقف. رأيي الخاص بعد تمحيص كل شيء. أولاً: إن دولة يهودية ستعلن الأسبوع المقبل. ثانياً: إن فرصة العرب الوحيدة لمنع قيامها هي خلال الأربعين يوماً المقبلة. ثالثاً: أما بعد ذلك فان بقيت فستوحد دولياً ومادياً وستثبت لعشر سنين على الأقل. رابعاً: وإن ثبتت لعشر سنين فستبقى لخمس وسبعين سنة أو لقرن. خامساً: أما الوضع السياسي العالمي اليوم فباستطاعتنا استثماره لمنع قيامها إذا اتحدنا ما بين أنفسنا اتحاداً تاماً وجرؤنا، الجرأة في الفصل قبل القول». وبعد أسبوع على هذه البرقيه أعلنت دولة إسرائيل في الخامس عشر من أيار 1948. وصدقت نبوءة الدكتور شارل مالك وتوقعاته. إذاً، تمر هذه الذكرى وبالكاد يجري تذكرها، لأن سلم الأولويات في المنطقة غيرته إسرائيل وأسقطت «قضية العرب الأولى والمركزية» من الموقع المتقدم إلى الصفوف الخلفية. ومع انهماك دول المنطقة بالكثير من المآسي القومية والوطنية والإنسانية حدث تطور مر خلسة وبهدوء مريب، حيث أعلن الجانب العربي عبر وزير خارجية قطر الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني، للولايات المتحدة، عن إسقاط حقوق العرب (المتعلقة بأراضي حرب 1967). وهذا التطور حدث بعد انقضاء أحد عشر عاماً على إطلاق ما سمي في حينه «المبادرة العربية». وحيال رفض إسرائيل قبول هذه المبادرة على رغم الكثير من التنازلات التي تضمنتها، كان لها ما أرادت من التخلي العربي عن حقوق حدود حرب ال67. وكان إلى جانب قطر في تقديمها هذا «التنازل» كل من وزير خارجية مصر ووزير خارجية الأردن، الأمر الذي يشير إلى أن «طبخة» التنازل أعدت بتنسيق محكم مع أطراف عربية أصيبت بالوهن والترهل القومي من «تحمل أعباء» القضية الفلسطينية ووجدت في هذا التطور وسيلة جديدة لإبعاد كأس مواجهة الاحتلال الإسرائيلي. ومر الحدث بهدوء تام من دون أي رد فعل، ونجح «النهج الإسرائيلي» في تسويق الفكرة القائلة: إن اسرائيل ليست هي عدو العرب الأولى، بل إن إيران هي التي تمثل «الخطر الكبير على المنطقة». وإضافة إلى ذلك، فإن مخيمات العار تنتشر على مختلف مساحات الحدود بين سورية ودول الجوار، وبدل أن تنتقل الشعوب من المخيمات إلى المنازل التي تخدم الحد الأدنى من حقوق الإنسان، فإن مساحة المخيمات تتمدد في كل يوم مع تواصل التدفق البشري من سورية إلى المناطق المجاروة. ويلاحظ أن الدوائر الدولية المهتمة بإيواء هذه الألوف المشردة تعد خططاً للمدى البعيد، الأمر الذي يوحي بأن الوضع في سورية سائر من سيئ إلى أسوأ وفي هذا السياق تجب الإشارة إلى كلام لافت قاله سفير بريطانيا لدى لبنان طوم فلتشر، فهذا الديبلوماسي الناجح يقرأ وقائع المرحلة القائمة حالياً في المنطقة بأسلوب مختلف عما أصبح مألوفاً ومتداولاً. وفي سبيل إنعاش ذاكرة البعض علينا القول إن «تفاهمات سايكس بيكو» عقدت بين الجانبين البريطاني والفرنسي لكن الطبعة الجديدة لهذه التفاهمات ستتبدل وتتغير ويقول السفير فلتشر في هذا الشأن: «قد يأتي وقت يكون فيه مكان لمحادثات تؤدي إلى سايكس بيكو جديد رقم 2، لكن الخريطة الجديدة للمنطقة ستقوم على أساس اتفاق بين الإيرانيين والسعوديين أو بين الأميركيين والروس، ولن يكون الاتفاق بريطانياً - فرنسياً». وحول الوضع القائم في سورية وتطوراته المرتقبة للآتي من التطورات، يقول السفير البريطاني في بيروت: «في لبنان قد يحل الإيرانيون محل السوريين في «الطائف 2»، ويضيف: لا يوجد تفاهم دولي في شأن إقامة منطقة حظر جوي داخل سورية، لكن من المهم حفظ مقومات الدولة السورية، والاستفادة من دروس التجربة العراقية وبخاصة الخطأ الكبير الذي ارتكب بحل الجيش العراقي». وبموجب الدقة الإنكليزية المعروفة يستخدم السفير فلتشر بعض التعابير المحددة التي يجب التوقف عندها، ومن ذلك قوله مثلاً «من المهم حفظ مقومات الدولة السورية والاستفادة من أخطاء التجربة العراقية وبخاصة حل الجيش العراقي. وكأنه يدعو إلى عدم انهيار الدولة السورية بكاملها، والإبقاء على مقومات الجيش السوري، لأن انهيار سورية كدولة، وكجيش ستكون له عواقب وخيمة. ولعله من هذه المنطلقات يمكن فهم بعض التردد الغربي في اتخاذ قرارات حاسمة لدعم المعارضة السورية حيث لم تتولد بعد الثقة الكاملة في الثائرين على نظام بشار الأسد. وبمحاذاة كل ذلك يجري العمل على إعداد ما يعبر عنه ب «جنيف 2»، وما يعقد الأزمة الماثلة حتى الآن الخلاف حول موقع الرئيس بشار الأسد، فالولايات المتحدة ومعها بعض دول أوروبا تصر على عدم وجود الأسد في لعبة الحل، فيما تصر روسيا والصين وبعض الدول الأخرى على ترك مصير بشار الأسد إلى ما يقرره الشعب السوري في الانتخابات المقبلة والمقررة لعام 2014. وبعد... أولاً: في ضوء كل ما يجري في سورية فإن الدول المتضررة من أهل الجوار هي لبنان أولاً ثم الأردن أو بالعكس. ذلك أن تدفق سيول اللاجئين والنازحين عبر الحدود إلى الداخل اللبناني أوجد حالة من القلق الشديد من تداعيات مثل هذا التطور، ليس فقط لجهة تأمين الحاجات المعيشية الضرورية فحسب، بل يعجز لبنان عن التحكم بهذه الأعداد الهائلة من اللاجئين وطالما أن الدوائر الدولية المعنية تتحدث عن ارتفاع عدد اللاجئين للشهور القليلة المقبلة فهذا يعني أن الحرب في سورية مستمرة إلى أجل غير مسمى. وغني عن القول إن «الانقلاب الديموغرافي» الذي يحدثه وجود هذه الأعداد الهائلة من النازحين على الداخل اللبناني فمن غير المعقول أن يمثل اللاجئون ما نسبته ربع سكان لبنان، بخاصة أن الدول القادرة على تقديم المساعدات الإنسانية، تقدم هذه المواد ب «القطارة». وقد وجه لبنان الكثير من النداءات عبر رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان لمساندة العالم للبنان في هذه الظروف الصعبة. لكن «الملايين» التي أعلن عنها حتى الآن لا تكفي لمواجهة احتياجات الحياة الأساسية للنازحين. خصوصاً إذا كانت الفترة الزمنية ستطول كما يدل الكثير من المؤشرات. ثانياً: إن الأزمات المحيطة بالواقع اللبناني من كل جانب تجعل المخاوف تتزايد من الآتي من التطورات في الأيام والأسابيع المقبلة. ذلك أن ما يجري في لبنان بين مختلف اتجاهاته «فصائله» ليس خلافاً سياسياً فحسب، بل هو أزمة وطنية بكل ما يعنيه هذا التعبير وإذا لم ينتبه اللبنانيون إلى خطورة ما يجري من حولهم والتأكد من أن لبنان لا يمثل في هذه الآونة أولوية مطلقة في الحسابات الدولية لوجب على أصحاب الحل والربط أو من تبقى منهم التخلي عن الأنانيات وعن البطولات الوهمية وإدراك الحد الأدنى من «التوحد الوطني» وتداعيات عدم التوصل إلى التفاهم الوطني وليس فقط السياسي. فيا أهل الحل والربط ومن تبقى منهم في لبنان، تنادوا إلى التلاقي والاتفاق على مصير الوطن... قبل أن يجتمع «الآخرون» ويقرروا عنكم ولكم. أم أنه كتب على اللبنانيين وكتبوا هم على أنفسهم أن يتجهوا إلى حرب أهلية كل عشر سنوات؟ * إعلامي لبناني