تجتمع خلائط شتى في رواية شربل داغر «بدل عن ضائع» (دار الساقي)، ففيها من الرواية البوليسية مقدار، ومقدار من الرواية النفسية، عدا عما اشتهر برواية الحرب. وقد يندغم أو يتفاعل بعض ذلك ببعض، لكن ما يغلب هو أن تتجاور الأمشاج مترجحةً بين دفء الاجتماع وغربته. من أجل أن نتبين ذلك، يحسن أن نتعرف إلى الكاتب الذي يروي الرواية، وعليه تتمحور، وإن بدا في شطر منها أنها تتمحور حول شخصية يسرا. وقد افتتحت الرواية بتقديم الكاتب في نصف صفحة مملّة حول تضييعه المتكرر لمفتاح سيارته. وإذ يحلّ في المقهى ليكتب، يرمي بعدد من العناصر التي ستقوم الرواية على تشغيلها، وأولها أنه قد سمى نفسه «الأجير الكتابي»، لأنه يكتب منذ أربع سنوات بأسماء مستعارة، كما تطلب مديرة الدورية التي يعمل فيها. والمديرة تحدّث الكاتب بما يجعله يتساءل عما إن كانت تسعى إلى أن تكون «شهرزاد» جديدة، بواسطته، فهي التي يحلو لها أن تكون بطلة في رواية تقرأها، وهي التي تحسن التمييز بين أن تكون رواية ممكنة النجاح أو أن تكون مرشحة للفشل. وتبلغ هذه العلاقة المميزة بين المديرة المميزة والكاتب المميز، مبلغاً من الندية، ومن الالتباس بعشق واشتهاء المديرة لأجيرها، فتحدثه عن أنها لا تميز غالباً بين كونها تقلّب بطرف إصبعها أوراق الرواية، وبين كونها تقلب ما تشاء في جسد من تحب، ثم تسأل: أتعلم أن الجسد هو لوح أيضاً؟ أما يسرا، «ذات ربطة العنق» كما سمّاها، فهي جارته الأربعينية التي تعلم أنه يتلصص عليها، وهي التي تداهمه في المقهى، وهي التي تبادره، فيشتبك العشق والجنس بما ترويه، وبما دونته في دفاترها التي تودعها للكاتب، وستشغل من فصول الرواية التالية قدراً كبيراً وهاماً. يتساءل الكاتب عما إذا كانت يسرا هي الأخرى تسعى إلى أن تكون شهرزاد جديدة، بواسطته. وقد ابتدأت سرديتها بذكريات إقامتها في الحي التجاري من داكار، وفي الدار البيضاء. وفي غمرة العلاقة التي تقرر فيها ما عليها وعلى الكاتب فعله – وهذا ما يريحه – تروي أجزاء من أخبار من دون أن تكلمها، وتنتقل من جزء إلى آخر بلا مغزى واضح، لكأنها بذلك تصف بناء رواية «بدل عن ضائع»، وهذا ما يكمله حديث الكاتب عنها: يسرا تروي مثل ماء يفيض، يسرا لا تروي، بل تقص مشاهد منفصلة ومرتبة، ولعلها أقرب إلى شهرزاد: تقص لئلا تموت. ويسرا نفسها تكرر هذه الشعارية الدارجة، بلبوس آخر: لعلي أقص كي أموت براحة أخيراً. وهنا ينبثق السؤال عن الفارق الذي يقرره الكاتب بين الروي والقصّ، فعنوان هذا الفصل الأول من الرواية، هو «تروي لئلا تموت» بينما ينفي الكاتب أنها تروي، ويقرر كما تقرر أنها تقص لئلا تموت، مما يرادف بين الروي والقص ويبطل ادعاء الفارق بينهما. بينما يبهظ الروايةَ الوصفُ التفصيلي التقريري الجاف للمكان وللأشياء، يفكر الكاتب الراوي في كتابة يوميات عن جيرانه الذين لا يعرف أحدهم، لكنه يتلصص عليهم، كما يليق بالمريض النفسي بالتلصص. وأنا أفضل على هذا المصطلح أن نقول: البصبصة، كما سيقول الراوي في الفصل السادس من الرواية، عندما يصرخ بما يثير شهوته في التخفي، وفي التلصص، وفي تكثير الحيوات المختلفة التي كان يعيشها بالوكالة: إنها متعة «البصبصة». وستعلن المديرة له أنها هي أيضاً تحب البصبصة، بينما تحدّثه عن ليلة «حمراء» قضتها مع كاتبة صديقة. وستتكشف المديرة عن شخصية تضرب خارج المألوف، بما لها من التذاذها الروائي بما تعيش، وبدعوتها الكاتب إلى أن تشاركه الجنس إن مارسه أمامها مع أخرى... وصولاً إلى تعرضها للاغتصاب الجماعي من أربعة ملثمين. وفي خلاصة ذلك يتساءل الكاتب عما إذا كانت تصف ما يحدث لها أم تتخيله في روايات، ويقرر أن هذه التي كانت قبل سنة، رصينة وكتومة، لم تكن ماضية فوق دروب التحرر الداخلي، بل كانت تنزلق سريعاً في منحدرات التيه في هويتها وجنسها. ينتهي الفصل الأول من الرواية بانتحار يسرا وهي توصي الراوي بابنها هادي. ثم يأتي الفصل الثاني «كرهت جسدي» ليعزز النفسيَّ العليل في الرواية، عبر ما تروي يسرا عنها وعن سواها. فهذه التي تناظر المديرة في ولعها بقراءة الروايات، تقارن نفْسها بالليدي تشاترلي في الاندفاع الغريزي الشهواني. كما تستحثّها مدام بوفاري، بينما يصير جسدها شاغلها ليل نهار، لأن زوجها يلح على الحمل، فيلسعها السؤال عما إن كانت حرة ما دام المتاح لها هو أن تحمل. وأمام عطب العلاقة الجنسية مع الزوج تلجأ إلى الفانتزمات الجنسية، كما تلجأ إلى الطبيب «شافي الأرواح» الذي تنصح به خادمتها. على يد هذا الطبيب تطير أشباح من جسد يسرا، وتدخله أخيلة وكائنات ومتع. ويتحقق الحمل، ويأتي هادي الذي يتبدل شعره نحو الأسود المجعّد، فتلوب يسرا على ابنها الزنجي: «هادي نعمتي، هادي نقمتي، هادي لعنتي». وإنها لخديعة الطبيب المشعوذ إذاً، الذي يعمل في شبكة تديرها لوكسمبورغيّة. مع ماري لويز خادمة يسرا، يتواصل النفسيُّ العليل في الرواية. فقد اختار والد الخادمة لها هذا الاسم تيمناً بزوجة القنصل التي كان يتلصص عليها، فالرجل مسكون أيضاً بالبصبصة. وكما تروي الخادمة لسيدتها قصة أبيها، تروي قصتها هي مع الذي حوّلها إلى مومس زمناً. وسيكتشف التحقيق بعد شكوى زوج يسرا، ضلوع الخادمة في الشبكة التي وقعت يسرا في حبالها، فأنجبت الزنجي هادي الذي سيعقّد غموضُ مصيره الرواية، وهو يسمها بالبوليسية، عبر سعي الكاتب إلى تنفيذ وصية يسرا بالبحث عن هادي الذي اختفى، واشتبكت خيوط إخفائه واختفائه بين داكار وباريس وبيروت وبين الخادمة والطبيب المشعوذ وسواه. بين دفاتر يسرا التي أودعتها الكاتب، وبين سرديته هو أيضاً، تكتمل صورة يسرا منذ طفولتها إلى زواجها فإقامتها في باريس بعد زلزلة هادي، حيث دخلت المصحة وعانت الوحدة والفقر. وقد جاءت سردية يسرا في هيئة يوميات تتداخل تواريخها، وهي التي كتبت في فترة انهيارها العصبي تلبية لطلب أطبائها الكثر، واستجابة للذتها. وسيخبر الكاتب في سرديته أنها قد روت له ما لم تكتبه في الدفاتر، وتركت له حرية التصرف بكل ذلك، إذ إنها – بحسبانه – كانت تبحث عن كاتب مثله، وقد رددت أنه كان بدلاً من ضائع. وتتعزز هذه الإشارة إلى عنوان الرواية بقول الكاتب إن هادي بات يحيا معه مثل مستقبل مؤجل تحت اسم مجهول هو البدل عن ضائع. وعلى رغم ذلك يبدو أن عنوان الرواية يقصّر عما يُفترض به كعتبة أولى وكبرى للنص. يفرد الكاتب لسيرته فصلاً، فيستعيد نشأْته في زمن الحرب، وما فعلت الحرب به وبأسرته وزملائه، وصولاً إلى محاولته فتح ملف مقتل والده أثناء الحرب. وعلى أية حال ستستدير الرواية عن يسرا، لتمتلئ بالكاتب في علاقته بسوزان التي تحافظ على عذريتها في باريس – وهذه حالة نفسية أخرى - حيث تعد أطروحة في تزوير الفن الإفريقي... ليتقاطع مع الملف الذي كلفته به المديرة، والمتعلق بالتزوير. وإلى سوزان يأتي طموح الكاتب أن يكون روائياً، وهو من تقرر مديرته أنه روائي متخفٍ، بينما يرى نفسه يتدبر فئات الكلام. ويتعرج القول، كما يعرج، ما بين كتابة يسرا وكتابته، أي ما بين كتابة الذكر وكتابة الأنثى. أما العرج فتجلوه جلجلة الكاتب أن يسرا ستحيا في ما كتبت في دفاترها، وفي ما سجل من اعترافاتها له، بينما ليس أمامنا إلا ما ذكره من إخراج الدفاتر في صيغة سردية، بالحذف والنقل والتكثيف، مثل صنيعه في جمع وصياغة الملفات التي تكلفه بها المديرة التي تقرر – أم إن الكاتب يقرر بلسانها؟ - أن المرأة وحدها تصلح لتسرد سردية الحرب. وليس هذا آخر ما تحتشد به الرواية، بعد ان تقدم ذكره من النفسي العليل ومن البوليسية ومن سطوة الراوي الكاتب الأجير والمزور، بينما يظل سؤال هادي معلقاً، بما يستبطن من سؤال الذات والآخر، السنغالي واللبناني، الإفريقي والشرقي.