في روايته الجديدة «الأحمر والأصفر» يروي الكاتب العماني حسين العبري سيرة الشاب سالم بن محمد الملاحي، وينصّ على لسان راوي الرواية أن غاية السيرة هي العبرة الأخلاقية الأدبية، وأن ذلك ليس «مروراً فردياً» لشخصية فحسب، بل هو «مرورنا جميعاً» كأفراد متمثلين فيه، وممثلين به. وإذا كان ما سيعزز زعم الراوي أو يزعزعه هو ما سيلي من تأمل في جماليات الرواية، فستكون الخطوة الأولى إلى ذلك هي تأمّل ذلك الراوي الذي لا يفتأ يعلن عن حضوره، كلما أوشك المرء أن يأنس إلى حضوره غير المباشر، بالاتكاء على ضمير الغائب العتيد هو. في بداية الرواية التي سنكتشف أنها قد جاءت بعدما انتهت الرواية بانتحار بطلها سالم، يشهد الراوي أنه يروي بصيغة الماضي، بعد إسدال الستارة، فينظر إلى تعاقب الأحداث، متذكراً إياها بأسلوب تراجعي «مصوراً بالكلمات سيراً منظماً منطقياً لتداعيها، يرتق ما فيها من فوضى ولا عقلانية». وبعد حين قصير، كما بعد حين أطول، سيذكِّرنا الراوي بنفسه، كأن يشير إلى معلمي الطفل أو الفتى سالم، بأنه (سالم) ظلّ «لنقلْ متوخين الدقة والسخرية نوعاً ما» مصدر قلق لدى بعضهم. وسيعلن في موقع آخر أنه سيتوقف لوهلة عن الاسترسال في السرد، ليلقي بتوضيح بسيط، يجد نفسه مجبراً على قوله، تحسباً لقارئ قد يقول في نفسه إن هذا الراوي ما فتئ يبعثر هنا وهناك صفات كبيرة وعظيمة على ولد قروي، بوعي بسيط. ويتابع الراوي أن بعض من يعرفونه، وبخاصة من «قريتنا» قد يحاججون في أنه كان بعيداً وقت «تشكل أحداث قصتنا هذه»، إذ كان مقيماً في دولة غربية من أجل الدراسة العليا، وكان قلما يزور «قريتنا» التي تجمعه مع سالم، أثناء الإجازات التي يعود فيها إلى عُمَان. وعلى هذا النحو يتوالى قول الراوي بأنه أكبر من سالم بسنوات قليلة، وأنه لم يكن موجوداً «ساعة انبجاس الأحداث»، وأن فترة زمنية طويلة نسبياً تفصل بين وقوع القصة وبين كتابتها. وعلى رغم أن الراوي يعلن عن نفسه في الرواية «كمؤرخ أمين» لا يبتغي غير إبراز الأحداث ووصفها، إلا أنه ينفي أن يكون قادراً على تطويق كلماته بإحكام يمنعها من أن تنضح برؤاه هو، وبأفكاره الخاصة البعيدة عن مسار القصة. ولذلك ليس غريباً أن يؤكد في مقام آخر أنه سيستمر في الحكاية - الرواية اتباعاً لفتنة الكلمات فحسب، على رغم أن البحث عن أسلوب موائم يشغله. ولكي يتخفف من ذنب عظيم يعلن الطمأنينة إلى أن القارئ المتيقظ لن يصعب عليه أن يميز أقواله هو، وبالتالي: أن يستأصل القارئ ما يراه من تلك الأقوال زائداً، «بشفرة منطقه الحادة». يوزع حسين العبري روايته على فصلين، يتعلق الأول بسنوات سالم في القرية، بينما يتعلق الثاني بسنته في مسقط. ويحدد الراوي المصادر التي استقى منها قصة سالم بالحوارات الطويلة التي دارت بينه وبين شقيق سالم الأكبر خالد الذي تحمّل عناء قراءة القصة (الرواية) وتصحيح مسودتها. ومن تلك المصادر أيضاً دفتر مذكرات سالم نفسه الذي أعاره خالد للراوي - الكاتب، وكذلك: أحاديث أصدقاء سالم المقربين. من العلامات التي يرصدها الفصل الأول من سيرة سالم، أسرته ومعلموه، وحيث تنتقل الكتابة بلا ترتيب بين السنة الأولى في الثانوي، فمثيلتها في الإعدادي، فعودة إلى صف ابتدائي، وعبر ذلك ستكون المكتبة كبرى العلامات: مكتبة الأستاذ زاهر أو مكتبة المدرسة أو مكتبة النادي، كما ستكون موسوعة عالم المعرفة علامة كبرى، وستكون أسرة أستاذه المصري مصطفى المزروعي علامة أكبر، بالأستاذ نفسه، وبابنه وليد الذي سيدافع سالم عنه بطعن زميل يتحرش بوليد جنسياً. أما نهاد ابنة الأستاذ فستكون عشق سالم الأكبر الذي سيمحو ما مال به من قبل مع الراعية خديجة أو سلافة التي أحبها (ذات صباح حزين). وإذا كان انتقال أسرة المزروعي، بعد واقعة التحرش بوليد، سيزعزع كيان سالم، فسيضاعف زعزعته اتهام طفلة له بالتحرش بها، وسيدفعه ذلك إلى أن يفكر بالانتحار، ثم إلى أن يتطوح في الكتب الدينية وفي توقه للإيمان، بينما يتفجر ما يحسبه من أخطائه، ويضيق به أن «قلبه مصنوع من الشك». في الفصل الثاني يرافق سالم شقيقه إلى مسقط ليكتشف عالماً جديداً، ابتداءً بصديقي شقيقه اللذين يسكنان معه، وبخاصة ناصر المستلّي الشاعر، والذي يفتح لونه الأسود على حالة الفصل العنصرية التي يعيشها المجتمع العماني، وفق الراوي الذي يتابع التفسير أو التعليق، فيما هو يسرد. قصص متلاحقة ناصر يقود سالم إلى النادي الصحي حيث يلتقي بالتايلاندية كارمن، وبالتدليك والجنس. وإلى حانة (الشعب) يتبع سالم ناصراً، فإذا بعالم جديد من السكر والرقص، وإذا بشخصيات جديدة، في رأسها الراقصة المغربية نوال الأمازيغية التي تتردد على شقة خالد، صديقةً للثالث الغائب، فتغرق سالم بالجنس. ويتولى الراوي سرد قصتها، كما سيتولى سرد قصة الجارة (نصرة) التي أوصل التلصص سالماً إليها. فبعد أن كان التأمل ديدنه في القرية، ها هو التلصص يصير ديدنه في المدينة، فيرى في ما يرى في العمارة المقابلة الخادمة الفيليبينية التي يحاول فتى اغتصابها. ولئن ارتدع الفتى بتدخل سالم، فسيكشف التلصص أن والد الفتى يغتصب الخادمة. وهكذا يقود التلصص سالماً إلى الزوجة نصرة. بإنجاز سالم لتفتّحه الجنسي في مسقط، تبدو له ماخوراً كبيراً. لكن التفتح المعرفي والروحي سيتوطدان ثمة أيضاً، ابتداءً بموسوعة عالم المعرفة وما فيها عن المرأة، وعن إبليس، وعن المفكرين والفلاسفة، فضلاً عمن عرف من البشر. وقد أورثه كل ذلك من القلق ما أورثه، فعاد الانتحار يناوشه بأدهى مما كان له في القرية، ولن ينجده اللجوء إلى المسجد، ولا خطبة الجمعة التي أبهظت الرواية بطولها. وقد يكون للمرء أن يرى في عنوان الرواية منعرجات سالم منذ طفولته حتى انتحاره في نهاية الرواية. فمع الأصفر - وأمره أهون - نرى صورة مسقط تنطبع في كيان سالم، بشوارعها المضاءة بالأصفر الذهبي، ونرى شاطئها منفذاً نفسياً له بما يشكله مزيج الأصفر الرملي والأزرق البحري - السماوي. ومع أصفر الفضاء هو ذا أصفر الجسد: «لقد انصبغت كل أشيائه بالأصفر الجسدي الذي للمرأة، شمعتين تجرحان الليل، وتذهّبان جسدها النازّ بالشهوة». لكن نصيب الأحمر وفعله مختلف. فمن الطفولة يستعيد سالم عثوره على الريال الأحمر، وسور القرميد الأحمر، والخط الأحمر الذي رسمته العصا في باطن يد الأستاذ الممسك بها بقوة... ومن زمنه القصير الزاخر في مسقط الحمرة مما ترتدي نوال أو كارمن، وبالأحرى: يرتبط الأحمر بالجنس، لكن الأهم هو ما يعصف بدخيلة سالم: «ليس أقرب إلى الإنسان من الجحيم، ومن الدرب الأحمر الموصل إليه» فأين انتحار سالم من ذلك؟