شغلت الرحلة إلى أرض الحجاز كثيراً من الأدباء والكتاب والمفكرين سواء كانوا عرباً أم عجماً، ومن أشهر هذه الرحلات المعروفة رحلة عبد الوهاب عزام عام 1937، ورحلة محمد شفيق أفندي مصطفى عام 1346ه، ورحلة محمد علي حسن مندوب جريدة «اللواء» المصرية، ورحلة أحمد حسين مؤسس حزب «مصر الفتاة» عام 1948 التي جاءت تحت عنوان «مشاهداتي في جزيرة العرب» ورحلة محمد حسين هيكل عام 1396ه «في منزل الوحي»، ورحلة بنت الشاطئ، المعروفة باسم «أرض المعجزات»، و «رحلة الحجاز» للمازني، ورحلة عباس العقاد، ورحلة طه حسين إلى الحجاز، ورحلة الأمير شكيب أرسلان، ورحلة الأديب المصري يوسف إدريس التي سجّل أحداثها وانطباعاته في كتابه «إسلام بلا ضفاف». وبصفته أديباً وكاتباً، فقد عبر عما يختلج في فؤاده من آمال وآلام، وكيف كانت هذه الرحلة بمثابة استراحة وجدانية ومراجعة ذاتية وفرصة عظيمة لالتقاط الأنفاس، والترويح عن النفس، وتغيير الزمان والمكان والناس، فيقول: «منذ النصف الثاني من السبعينات والهم يتثاقل حتى كاد يبلغ الحلقوم، ومع هذا فنحن أحياء مازلنا نتحمل ونصبر ... كانت هذه الأفكار تدور في رأسي وأنا أرتدي ملابس الإحرام في طريقي للطواف بالكعبة والصلاة في البيت الحرام، وزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وصاحبيْه أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، فأرضاهما». ووصف يوسف إدريس مشهد الطواف حول الكعبة وجموع المسلمين من شتى الأجناس ومختلف الألسنة، وصفاً صادقاً ومعبراً، فقال: «كنت أطوف بالكعبة وأرى الناس سوداً وبيضاً، صينيين وأوروبيين، مشارقة ومغاربة، من نيجيريا إلى إندونيسيا، نلتف جميعاً حول الكعبة ونصلي المغرب، يا له من مشهدٍ غريب فريد في بابه يشرح القلب، آلاف مؤلفة من الناس يحمدون الله ويركعون ويسجدون ويسبّحون ويستغفرون، كان منظرهم يخلع القلب فرحاً، ويجعلك تنتقل من انتماءاتك المحدودة في عائلتك أو في بلدك إلى انتماء أشمل وأكبر. إنه الانتماء الأكبر، انتماء إلى المحيط الإسلامي الواسع، حيث تحس بآلامك ومخاوفك، تذوب تماماً في هذا المحيط وتبدأ نفسك كالماء المعكر بالطين حين يروق ويروق حتى يصبح أصفى من الماء المقطر، من نقاء وحلاوة ماء زمزم». ثم انتقل إلى وصف الروضة الشريفة، وتدافع الزائرين إلى إلقاء التحية والسلام على صاحب الروضة المعصوم؛ فيقول: «وقفت أمام مقام الرسول الكريم وجموع المسلمين تتدافع لتلقي على بابه، وعلى مقامه نظرة شوق طال، وشفاعة مكتومة في النفس، كل منهم يبوح للرسول بمكنون قلبه وبدعاء له ولوالديه ولأولاده وعائلته، ومثلما كانوا يدعون دعوت، ولمْ يكن الدعاء سهلاً. فقد كان علي أن أفرغ نفسي تماماً من كل اهتماماتها الشخصية والدنيوية، كان علي أن أطهر قلبي وأفسح صدري وأمسح كل ما يزدحم في رأسي من قلق، ولم يكن الأمر سهلاً، فما كان يشغلني عمره أحقاب وأحقاب، طبقات فوق طبقات من هموم عامة وخاصة، من خوف غريب من المستقبل، من تشاؤم يكاد يطبق على بصيرتي وبصري. كان عليَّ أن أتطهر لتعود نفسي بريئة كنفوس الأطفال الرضّع، جديدة كأن لم يمسها سوء ولا فعلت سوءاً». جلس يوسف إدريس بجوار الروضة الشريفة، وطال به الجلوس، حيث طاب له المقام، وتلذّذ كثيراً بشرف الجوار الكريم، فانهمرتْ عليه الأفكار والرؤى، وتنزّل على عقله وابل من الأسئلة، فقال: «بينما أنا مستغرق في دعائي لنفسي ولأسرتي وحتى لأصدقائي. هبط علي خاطر كأنما هو منزل من أعلى عليين. وماذا يا يوسف لو استجاب الله لدعائك وحفظ عليك صحتك وعلى أسرتك سعادتها، وعلى أصدقائك حياتهم. أهذا هو منتهى الوصول؟ ما فائدة أن تحلّ البركة والخير على تلك المجموعة الصغيرة من الناس، في مجتمع يعاني، وبين مصريين يتحملون ما لا طاقة لهم به»؟! فماذا فعل وهو بجوار الروضة الشريفة وفي أسعد لحظات التأمل؟ يقول: «دنوت من قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، ورأيته في ضوء آخر تماماً، هذا إنسان من بني البشر اصطفاه الله جلّ جلاله ليكون رسولاً ومبشّراً بالإسلام العظيم، فماذا فعل؟ لم يكتفِ بتبليغ الرسالة إلى أولي القربى منه أو إلى قريش، وإنما جعل همه كله سعادة البشر في الجزيرة وفي الدنيا كلها، وآمن بهذا إيماناً جعله يتحمل الأذى ويتحمل النفي والهجرة ويقاتل المشركين الضالين. إن محمداً رجل واحد بمفرده وبقوة من عند الله، ولكن بإيمان يجلّ عن الوصف استطاع أن يغير أُناساً يعيشون في عصر الوثنية والبداوة والجاهلية الأولى، كانوا يعبدون أصناماً من الحجر، فحوّلهم إلى قوم صنعوا أمة هي أعظم أمم الأرض قاطبة، قوم استطاعوا أن يهزموا أكبر إمبراطوريتين في عصرهم، أن يحطموا ديوان كسري، ويقوّضوا عرش إمبراطور الرومان، وينشروا مبادئ الإسلام السمحة من بواتييه في فرنسا إلى الصين في أقصى الشرق». وفي هذا المكان الذي هو روضة من رياض الجنة، شعر يوسف إدريس بالاطمئنان، وأحسّ بالأمان، وذاق حلاوة الإيمان، فقد أحاطته الرحمات وتنزّلت عليه السكينة، فراح يتذكر إخوانه وأهله الذين تركهم وراءه في بلده وموطنه، فاستغرق في الدعاء لهم ولأهليهم أجمعين، فيقول: «صلّيت ركعتين في الروضة الشريفة، وارتكنت إلى عمود من أعمدة الحرم النبوي الشريف، أرقب الإيمان مجسّداً على الوجوه، يا لحلاوة الإيمان حين يكسب الوجه البشري جمالاً نابعاً من القلب وموجّهاً إلى المولى سبحانه. وجاءتني مصر وأنا مرتكنٌ أمارس متعة الابتهال بلا صوت، تأملٌ بلا انقطاع، جاءتني مصر بشعبها، ومشاكلها، بحاضرها ومستقبلها، ورحت أدعو للشعب المصري، بني وطني والمسلمين جميعاً أن يزيد الله لهم في الخيرات، إنه القادر القوي المعين». وهناك انتابت الكاتب بعض الخواطر الجياشة، فبينما كان منشغلاً بالدعاء في تلك الرحاب الطاهرة، ظلّ يتساءل أسئلة مشروعة، حيث لا يسرّه أن يكون هو سعيداً أو مغتبطاً، بينما هناك كثير من إخوانه في العقيدة يقاسون الآلام، ويعانون أشد المعاناة. إن يوسف إدريس يرى أن المسلم الحقّ لا يسعد إلا إذا رفرفت السعادة والسكينة على الجميع، فتساءل بقوله: «ما فائدة أن أكون قد دعوت لعائلتي ولنفسي أن يخلصنا من أزماتنا وقلقنا، ونحن نحيا مع شعب واقع في الأزمات والقلق، ما فائدة أن تكون سعيداً صحيحاً في مجتمع يعاني؟ ما فائدة أن يرزقك الله بالملايين في شعب يعيش على حافة الفاقة؟ إن المسلم الحقيقي لا يسعد إلا في مجتمع مكتمل السعادة، ترفرف فيه السكينة على الجميع. وظللت أدعو وأدعو حتى وجدتني أبكي بكاءً لم يحصل لي من قبل، فهو ليس بكاء حزن وليس بكاء إشفاق على النفس والشعب، وليس بكاء مذلّة وإحساس بالضيم، ولكنه بكاء المحبّ لحبيب، البكاء الواصل بين الله سبحانه والإنسان، البكاء المستلهم من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، بكاء المتأمل في الآيات البيّنات التي أوحى له بها وغمرت الدنيا من أقصاها إلى أقصاها». وفي ظلّ فيض الرحمات التي تنزّلت عليه في الروضة الشريفة وفي تلك البقاع الطاهرة - بعدما تخلى عن معاركه الفكرية والأدبية، وأدار ظهره للدنيا وما فيها - استمرّ في غمرة إعجابه وتأملاته، استمرّ يدعو بلا توقف، لنفسه وللآخرين، فقال: يا رب لا تمنحني الصحة وشعبي مريض. ولا تمنحني الرزق الوافر وشعبي يشكو الفاقة. ولا تمنحني سلامة النفس وشعبي يطحنه القلق. وأنزلْ اللهم السكينة على قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم. يا لها من آية كريمة معجزة المعنى، فقد ظللت أرددها من دون أن أعي، وكأنما بقدرة قادر وبإملاء قادر رأيتني أردّد بلا توقّف: «هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم». فأنزلْ اللهم السكينة على قلوبنا، وألهمنا الصواب، وأخرجنا بفضل قوتك ورحمتك من مآزقنا، وهيئ لنا من أمرنا رشداً، إنك أنت السميع المجيب الوهاب».