للوهلة الأولى تبدو كتابة فيلم «البحث عن شوغارمان» صعبة لأنها مصحوبة بيقين أنها ستعجز عن أن توفيه حقه. هذا ليس لأنه فيلم غريب، أو معقد. فالعكس صحيح. إنه بسيط بساطة جريان الجدول الصافي فوق الصخر. إنه فيلم تسجيلي يروي حياة «مغنٍّ» بالصور وعلى لسان عدد من الناس عرفوه، واحتكوا به في مراحل مختلفة من مشواره: عمال عاصروه أثناء قيامه بمهن شاقة، صحافيون بحثوا عنه، أو أجروا معه حوارات، أصحاب شركات تنتج وتوزع أسطوانات الموسيقى، أو شخصيات من المعجبين بفنه. هذا فضلاً عما قالته بناته الثلاث عنه، وما قاله هو عن نفسه، أثناء الكلام الذي كان يتبادله مع غيره. وهناك مصدر آخر للرواية هو الأغاني التي كان يكتب كلماتها، ويؤلف ألحانها، ويعزفها على القيثارة التي ظل يحملها أين ما ذهب منذ أن كان شاباً عمره ستة عشر عاماً يقيم مع أبيه في بيته، تلك القيثارة التي قال عنها إنها بدلت حياته، وحددت مسارها. حرية التنقل نحن هنا أمام فيلم يتنقل في حرية منسابة عبر الزمن، عبر أماكن مختلفة في مدينة تصنع السيارات، والآلات الحديد، والبؤس والجريمة، وبين مدينة أخرى رائعة الجمال فيها شواطئ على البحر الأزرق، وجبال خضراء لكنها في بلد يحكمها نظام يقهر البشر الذين ولدوا بجلود سوداء، فيلم اللحظات فيه كلها مخطوفة لكنها ثرية بالأفكار، والأحاسيس والشخصيات لا تظهر على الشاشة إلا دقائق معدودة لتحكي عن علاقتها برجل واحد، أو عن بحثها عنه بعد أن اختفى سنوات في ركن ملفوف بالدخان، عن انطباعات وخواطر أثارها فيهم، عن ظروف عاشها، عن تواضع غرس فيه، عن ظهوره على المسرح مرة وحيدة ثم اختفائه قبل أن يظهر من جديد، وعن، وهذا هو الأهم، عن موسيقاه، وأغانيه تسمعه وهو يغني فقرات منها بصوته الدافئ المكسور قليلاً! هذا الرجل اللغز، المغني، عازف القيثارة، الملحن، الشاعر الدارس الفلسفة، في كلية مونتيراي بولاية ماين الأميركية، المناضل من أجل المحرومين في كلمات أغانيه، وفي كل موقع عمل فيه عاملاً يزيل المباني أو يبنيها أو في مصنع مقابل أجر زهيد يسد به احتياجات أسرته واحتياجاته، ويتمكن به على رغم ذلك من تربية بناته الثلاث، وإلحاقهن بالدراسات الجامعية، من أن يبث فيهن حب الفن والمعرفة، ويصاحبهن في زيارة المتاحف كوسيلة للتثقيف، هذا الرجل مكسيكي، في ملامحه ذلك المزيج المميز للغزاة البيض والسكان الهنود الأصليين، هاجرت أسرته إلى الولاياتالمتحدة واستقرت في ديترويت، حيث يوجد مركز صناعة السيارات، وحيث توجد مدينة شيكاغو، مركز مافيات الجريمة وتجارة المخدرات، تلك المدينة القاسية التي يسري الفقر والعنف في شرايينها، في شوارعها وحواريها، لكنها لا تخلو من جمال تضفيه عليها بحيرة واسعة محاطة بالحدائق، وبيوت الأثرياء، ولا يتوقف فيها نبض الحياة لتوحي إلى رودريغز لكي يقول إنه ليس من المهم عدد السنين التي نعيشها، وإنما قدرتنا على أن ننبض مثلما تنبض هذه المدينة، أن نروح ونجيء كالسريان الذي يسري فيها، فيعلق أحد زملائه من العمال عندما يصفه، بأنه كان يعيش الأشياء البسيطة لكنه وهبها قيمة ارتقت بها إلى مستوى أعلى، أن هذا هو ما يصنعه الفن يرتقي بالإنسان أكثر مما يرتقي به أي شيء آخر. بعد سبعين سنة هنا في هذه المدينة عاش سيكستو دياز رودريغز، وسيكستو هذه جاءت من أنه كان الطفل السادس المولود لأهله، انتقل عندما كبر إلى بيت متواضع للغاية لم يبرحه منذ أربعين سنة، على رغم أنه لم يتوقف عن تأليف الأغاني الجديدة لتسلبه ثمارها شركات الموسيقى الكبرى. الآن تجاوز سن السبعين، فنراه سائراً في شوارع الحي مرتدياً معطفه الداكن الطويل، وقبعته الكبيرة، ونظاراته السود فوق الثلوج البيضاء يدوس عليها بخطوة بطيئة مثقلة بعبء السنين، أو عندما كان أصغر سناً عائداً إلى البيت فيخلع سترته ويشرع في تنظيفه، أي يفعل ما كان يفعله دائماً بعد يوم العمل كما تقول إيفا ابنته الكبيرة الجميلة، فإذا سأله الصحافي أرثلوميو كريج لماذا ظل كما هو لم يتغير منذ أيامه الأولى يبتسم ابتسامة صغيرة ويقول: «اخترت سعادتي الخاصة، سعادة عالمي الداخلي، وتركت مساحات العالم الخارجي للآخرين». كان يغني في المطاعم، والحانات، وبيوت المومسات، والمخازن المهجورة لتجمعات من الناس جاؤوا يبحثون عن لحظة ينسون فيها الحقيقة التي يعيشون فيها، أو يأتون لأن في أغانيه توجد الحقيقة بكل مراراتها لكنه يصنع منها شيئاً يسمو بها، وبهم إلى مستوى آخر. في هذا الحي، في هذه الأماكن بدأ مشواره. بدأ عندما سمع عنه رجلان يملك كل منهما شركة صغيرة للموسيقى، فذهبا باحثين عنه لندخل معهما إلى صالة صغيرة مزدحمة بالرجال والنساء، مليئة بالدخان يحول الموجودين فيها إلى أشباح. كان جالسا في ركن، مولياً ظهره للناس، فلا يرى أحد وجهه لكن كان يأتيهما صوته يغني، ذلك الصوت الدافئ، المكسور قليلاً الذي يغني للآلم، لأحلام البائسين في المدينة، للتمرد والعصيان، للبحث عن الأحلام الضائعة، والحب الذي لا يجيء. اتفقا معه على تسجيل أسطوانة لأغانيه. كان ذلك في عام 1968، وكان اسم الأسطوانة «الحقيقة الباردة». وسُجلت أسطوانة ثانية اسمها «صادر عن الواقع»، لكن مصيرهما كان الفشل التام. عام 1970 أقيم له احتفال ليغني فيه. سقط الاحتفال سقوطاً مدوياً وراح الجمهور يصرخ ويصفر استهجاناً، ويهاجمه بألفاظ جارحة، فانسحب بهدوء. بعد هذا راجت إشاعات تقول إنه، وهو لا يزال واقفاً على خشبة المسرح أخرج مسدساً وأطلق منه رصاصة على رأسه فمات، أو أنه توفي على أثر تعاطيه جرعة كبيرة من المخدرات، أو أنه قتل زوجته وأصبح مسجوناً فقد اختفى عن الأنظار تماماً. دام هذا الاختفاء خمسة وعشرين عاماً، لكن في أحد الأيام جاءت سائحة أميركية في رحلة إلى جنوب أفريقيا. أتت تحمل معها أسطوانة من أسطواناته أعطتها لصاحب محل لبيع المجوهرات يدعى ستيفن سيدرمان فاستمع إلى أغانيها وافتتن بها، وبالتدريج تنقلت بين الناس إلى أن وصلت إلى شركات للموسيقى قامت بتسجيلها، وتوزيعها، فانتشرت كالنار في الهشيم وبيع منها نصف مليون أسطوانة في أقل من ستة شهور. أصبح رودريغز معبود الشباب في بلد يعيش تحت نير النظام العنصري الذي يعاني فيه الناس من قهر عنيف، ليس في حياتهم العامة فقط، لكن أيضاً في حياتهم الخاصة ما يفسر إقبال الشباب على نغمة التمرد الموجودة في أغانيه، والحلم بتغيير الحياة. أما سيدرمان فمن شدة حبه لأغاني رودريغز حول محل المجوهرات إلى محل لبيع الموسيقى، وتصوره مقدمة الفيلم وهو يقود سيارته على الطريق عند شاطئ مدينة كيب تاون وهو يتمايل على أنغام أغنية شوغارمان، أشهر أغاني رودريغز عرف بها على نطاق البلاد، كما أنشأ موقعاً إلكترونياً سماه شوغارمان (بائع المخدرات) بهدف ترويج أغانيه. هكذا، يبدأ البحث عن المغني الذي لا يعرف أحد إن كان حياً أو ميتاً. انضم إليه صحافي من جنوب أفريقيا يدعي بارثولوميو ستريدوم شغله اللغز المحيط برودريغز. أصبح كالتحدي الذي يراوده طوال النهار، وفي الليل عندما يأوي إلى سريره. لذلك أطلق على الفيلم اسم البحث عن شوغارمان، وفي إحدى الأمسيات عندما كانت إيفا، كبرى بنات رودريغز تبحث في الإنترنت، صادفت الموقع وأخبرت أباها عنه، فنرى الرجل البدين سيدرمان نائماً في سريره في الصباح عندما يرن جرس التليفون. فتلتقط زوجته السماعة وبعدها تأتي بحركات مضحكة مشيرة إلى السماعة كأنها تقول: «إنه هو... إنه هو»، وكأنها من فرط الانفعال تعجز عن نطق اسم رودريغز وتناول السماعة لزوجها الذي يتعرف إلى صوت رودريغز على الفور. يدعوه الرجلان إلى زيارة مدينة كايب تاون بعد أن اتفقا مع عدد من شركات الموسيقى على إقامة أربع حفلات ليغني رودريغز فيها فبيعت جميع تذاكرها وقرب آخر الفيلم نشاهده وهو يهبط في المطار مع بناته الثلاث ليفاجأوا بمئات المستقبلين ينتظرونهم، بالورود والسيارات الفارهة جاءت لتنقلهم، فتحكي إيفا عن أحاسيسهم إزاء هذا الانتقال من الواقع الذي كانوا يعيشونه إلى ما بدا لهم كالحلم. يقضون بعض الوقت في منازل الأصدقاء، ويذهبون معهم في رحلة إلى شاطئ البحر يتلألأ في ضوء الشمس، وتحف به الجبال الخضراء ثم تأتي الحفلات الأربع التي يغني فيها رودريغز أمام جمهور من الشباب زاد عددهم في كل منها عن ثلاثين ألف جائوا ليستمعوا إلى الأغاني التي أحبوها، إلى كلماتها، إلى رنين قيثارته وهو ينقل أصابعه بين أوتارها، ليصرخوا في جنون وهم يندفعون نحو خشبة المسرح الذي يقف عليه وقد أغلقوا جفونهم في نشوة، ومدوا إليه أذرعهم كأنه جاء لينتزعهم من حياة كالرماد. عود على بدء ينتهي الفيلم بعودة رودريغز إلى ديترويت، إلى حياته المتواضعة مع عمال البناء لنراه حيث بدأ مشواره، راضياً بحياته البسيطة، بألحانه وكلماته تضطرم في الأعماق فيحولها إلى أغانٍ إلى أكثر من ثلاثين أغنية جديدة، إلى شعر يحكي عذاب الإنسان وأحلامه، ليظهر مرة أخرى على الشاشة مرتدياً معطفه الداكن الطويل، وقبعته الكبيرة، ونظاراته السوداء، سائراً فوق الثلج الأبيض بخطواته البطيئة، المثقلة بعبء السنين. هكذا، صنع لنا المخرج الجزائري مالك بن جلول المهاجر إلى السويد عملاً تسجيلياً لا ينسى، عملاً حصل من أجله على جوائز كثيرة، أبرزها جائزة أوسكار لأحسن فيلم تسجيلي أجنبي عام 2013 لكن الأهم من هذا أنه صنع لنا ما تستطيع السنيما وحدها أن تصنعه من فن مركب وبسيط، مفعم بالمعانى، مشرح للقلب وجميل، عمل رومانسي، ولا بأس. ألسنا في حاجة، ولو أحياناً، إلى الرومانسية في عالم طغى فيه العنف، وكادت أن تختفي منه العواطف في المنافسة القاتلة المحمومة لما نسميه السوق؟