إذا كانت التظاهرات فقدت بريقها، والمسيرات افتقدت سابق حماستها، والاحتجاجات عرفت طريقها إلى الاتهامات المعلبة ب «القلة المندسة» و «الفرقة المارقة»، فإن التصفيق الحاد والصمت الزؤام غير المتفق عليهما أو المخطط لهما أبلغ من عشرات الوقفات ومئات التنديدات وآلاف الهتافات وملايين الكلمات. كلمات ليست كالكلمات تلك التي هزت أرجاء الكاتدرائية المرقسية في حي العباسية التاريخي في القاهرة ليل أول من أمس، وهي التي لم تكد تستقر من سلسلة من الاهتزازات التي لحقت بها من «أحداث ماسبيرو» إلى الخصوص وبينهما الكثير. لكن اهتزازات هذه المرة لم تستدع بكاء وعويلاً، أو تهليلاً وصياحاً، أو حتى توجساً وخيفة، بل أدت إلى تأكيد وتعضيد، وابتسامات وضحكات، والأبرز من ذلك هتاف أعيد تدويره ولكن بعد تجديد محتواه «ايد واحدة»، وهو الهتاف الذي لم يهتف به أحد بل شعر به الجميع باستثناء السلطة الحاكمة. السلطة الحاكمة في مصر ممثلة في جماعة «الإخوان المسلمين» وأذرعتها الرئاسية والحزبية والتنظيمية اختارت أن يمثلها وزير الإسكان في قداس عيد القيامة ليل أول من أمس، والذي لم يكن قداساً عادياً كغيره، بل كان بالون اختبار لما آلت إليه جهود الشحن الطائفي والمسخ الديني والشحذ التكفيري بعد عامين ونيف من الثورة. فالرئيس محمد مرسي الذي أفتى مفتي جماعته «الإخوان» قبل أيام بتحريم تهنئة المسيحيين في عيد القيامة على رغم أنه زار الكاتدرائية بنفسه قبل عام وشد على يد البابا الراحل شنودة الثالث بكلتا يديه وهنأ المسيحيين بعيد الميلاد المجيد، فضل أن يوفد وزير الإسكان لتهنئة المسيحيين بعيد القيامة، وهو ما زاد مشاعر السخط وعمقاً من أحاسيس الغبن لدى المسيحيين ومعهم المسلمين من غير الإسلاميين. أما رئيس الوزراء هشام قنديل الذي لا يعول عليه أحد في ضبط وربط العلاقة بين شركاء الوطن لا سيما أنه غير قادر على ضبط وربط مفاصل الوطن أصلاً، فأناب وزير التعليم العالي مصطفى مسعد وإن توجه إلى الكاتدرائية صباح أمس لينضم إلى زمرة المهنئين في يوم العيد. إلا أن مسيحيي مصر ومسلميها غير الإسلاميين لم يتوقفوا كثيراً عند الزيارة، بل توقفوا ووقفوا وهللوا فرحاً لما شهدته الكاتدرائية من تصفيق كاشف فاضح واضح لا مجال للرياء فيه ولا محل فيه من الإعراب لاتهامات «إفشال الرئيس» و«إيقاف العجلة» و «إجهاض الثورة». فالبابا تواضروس الثاني أخذ يتلو قائمة طويلة من أسماء من هنأوا الكنيسة استهلها برأس الدولة وأذرعتها الوزارية ومندوبيها وهو ما تخلله صمت تام من الحضور ظنّه السذج احتراماً وتبجيلاً. لكن ما أن تفوه البابا باسم شيخ الأزهر أحمد الطيب حتى ضجت القاعة بالتصفيق الفطري الحاد. الفطرة التي تؤهل البشر للتحقق من قوى الخير والشر المحيطة بهم هي نفسها التي تزيل عن قوى النفاق والرياء ستائر التدليس والتمويه مهما بلغت حدة اهتزازات مصافحات الأيدي ومهما علت طرقعة القبلات المطبوعة على الجباه والخدود. خدود كل من كان في الكاتدرائية وكل من كان قابعاً على كنباته يتابع القداس وما وراء القداس من رسائل سياسية ارتفعت تحت وطأة الابتسامات التي تسللت إلى الوجوه مع موجات التصفيق العاتي بذكر شخصيات بعينها وأصوات الصمت الرهيب مع ذكر شخصيات بعينها أيضاً. تصفيق هائل مع ذكر أسماء وزير الدفاع عبدالفتاح السيسي والمرشح الرئاسي الخاسر أحمد شفيق ورئيس الوزراء السابق كمال الجنزوري ورئيس نادي القضاة أحمد الزند، وصمت تام مع ذكر أسماء كل من هو في الحكم. حكم الحضور صدر من دون سابق إعداد، ولذلك بدا في قمة الروعة. لكن روعة وضوح الرؤية وبهاء اللحظة سرعان ما تنقشع ليبدأ التجهيز للهجمات المرتدة. وحتى إن اختلط الجد بالهزل، يظل اختلاطاً شرعياً لا غبار عليه. فمن متوقع بتسمم ما لا يقل عن ألف طالب في المدينة الجامعية التابعة للأزهر الشريف تأثراً بالتصفيق الحاد والمودة الجارفة اللتين قوبل بهما شيخ الأزهر، إلى متنبئ بتلميع وتجهيز القلادة الخاصة بتكريم السيسي الذي اكتسب حب الكنيسة ويتشبث به الهاربون من مقلاة «الإخوان» إلى نيران حكم العسكر ويراود أحلام الضائعين بين ديكتاتورية الحكم الديني وتشرذم قوة المعارضة. لكن كل ما سبق في كفة وما قاله البابا تواضروس عن الأرواح في كفة أخرى: «بعض الناس أموات في الروح. إنسان رايح جاي بس فكره ميت. إنسان يعيش في الترابيات لا ينظر في السماء ويعتقد أنه حي». وهنا سارع بعضهم إلى البحث والتنقيب في كتب التاريخ وغياهب محركات البحث العنكبوتي بحثاً عن «عزل بطريرك الكنيسة المرقسية». وإلى حين التوصل إلى إجابة أو انكشاف ردود الفعل، يكتفي المصريون بالاستمتاع بما بين أيديهم من وضوح للرؤية أغشته ثقافة المراوغة السياسية الدينية حيناً وأتلفته فتاوى التحريم والتكفير حيناً لكن جعلته جلياً واضحاً مشاعر الفطرة التي تجمع المصريين على حب وطن واحد منزوع دهون الفتن وخال من كوليسترول الجهل والجهالة. تصفيق حاد.