قبل 1500 سنة قال شاعر عربي عن قبيلته: ملأنا البر حتى ضاق عنا/ وماء البحر نملأه سفينا. وفي أيامي أنا قال زين شعيب العاملي: نحن إل بعجنا برمحنا بطن السما. وبين هذا وذاك أقمنا ممالك من الشرق إلى الغرب، واخترعنا الصفر وطوّرنا علوم الفضاء قبل ألف سنة من تأسيس ناسا. مضى زمن كان الطفل العربي إذا بلغ الفطام تخر له الجبابرة ساجدينا، وإذا رشُد يطعن بطن السماء برمحه ليصنع منه تلك القبة فوق رؤوسنا. هكذا كنا، واليوم راح الجبابرة وخلفهم المتجبّرون، ووصل الناس إلى القمر وعادوا، وهم في طريقهم إلى المريخ، وشعار حزبنا واحد راكب على حصان وبيده سيف. اليوم كل الناس أحسن من العرب ولن أدخل في نقاش فلسفي فأخسر القارئ الوحيد الباقي لي، وإنما أحكي ذكريات وملاحظات سجّلت بعضها في حينه، وأقدّمها للقارئ، طال عمره، على سبيل التسلية. لو رفع عليّ رئيس وزراء بريطانيا قضية في المحاكم لكنتُ في المحكمة أقوى منه لأنه رئيس وزراء وراءه دولة تساعده، وأنا صحافي غلبان اختار أن يستضعفني. المحلفون من نوعي لا من نوع رئيس الوزراء لذلك فهم يتعاطفون معي لا معه، ولذلك لا نسمع أن رئيس وزراء غربياً رفع قضية على صحافي. بعد ألف سنة لن يكون عربي في محكمة أقوى من رئيس وزراء البلد. عندما رفعت قضية قدح وذم في محاكم لندن (وكسبتها) جئت لمحامي الدفاع باللورد كارادون واللورد ميهيو والسير جيمس كريغ والسير دنيس والترز ليشهدوا على حسن أخلاقي. ورآهم المحامي وطردهم من قاعة المحكمة لأنهم من عليّة القوم، وأصر عليّ أن آتي بزميل صحافي غلبان مثلي أو أكثر ليشهد لي أمام المحلّفين «الغلابة». اللورد كارادون الذي صاغ القرار 242 بعد حرب 1967 مثل آخر لماذا الخواجات أفضل منا. كانت الدولة بعد تقاعده قدمت له قصراً يتقاعد فيه، في منطقة بعيدة عن لندن. وهو وزوجته أقاما في البناء الصغير عند المدخل الذي كان في الأصل للحارس، لأن اللورد كارادون لم يكن يملك المال لدفع فاتورة الكهرباء للقصر كله. طلبتُ من اللورد كارادون أن يكتب ل «الشرق الأوسط»، وكنتُ رئيس تحريرها، مقالاً كل أسبوعين مقابل 250 جنيهاً للمقال فوافق. ولاحظتُ وأنا أدفع له ثمن كل مقال أنه يُخرج ورقة صغيرة من جيبه ويجمع ويطرح، وسألته مرة عن السر فقال إنه ذهب إلى الولاياتالمتحدة وقضى سنة في إلقاء محاضرات وجمَعَ مبلغاً طيباً أجراً عنها معتقداً أنه معفى من الضرائب. وعندما عاد إلى لندن تبين أن عليه أن يدفع ضريبة بلغت حوالى خمسة آلاف جنيه. نظر إليّ اللورد كارادون وقال: خمسة آلاف جنيه. من أين آتي بخمسة آلاف جنيه؟ كان دخله من المقال في «الشرق الأوسط» يذهب لتسديد الضرائب المستحقة بعد أن توصل إلى تسوية مع مصلحة الضرائب. وهو لو كان عربياً لكان سائقه يتلاعب بخمسة آلاف جنيه وخمسين ألفاً. في بيروت جاءنا سفير أميركي خطير هو ماكميرتري غادلي سبقته شهرته بعد أن عمل في جمهورية الكونغو الديموقراطية ولاوس، وذهبتُ لمقابلته فقدّمت لي السكرتيرة القهوة كما طلبت، وذهب هو ليأتي بفنجان قهوة له. وسألتُه هل يشرب قهوة «خصوصية» لا يعرف صنعها غيره، فقال إن قهوته مثل قهوتي إلا أن السكرتيرة بحسب القوانين الأميركية تخدم الضيف ولا تخدم السفير فهي في قوانينهم مساوية له. لو كان السفير أو الوزير أو الثري الكبير عربياً لكانت القهوة أهون ما يطلب من السكرتيرة. عندي قصص كثيرة مماثلة، ولكن أختصر، ومن سفير أميركي في بيروت إلى وزير الخزانة وليام سايمون في واشنطن فقد ذهبتُ لمقابلته في أواسط السبعينات بعد أن زادت أسعار النفط أربع مرات إثر الحظر المشهور بعد حرب 1973. إذا وقف القارئ أمام البيت الأبيض فإلى اليمين مبنى ملاصق لمجلس الأمن القومي وإلى الشمال، على بعد بضع مئة متر يقع مبنى وزارة الخزانة. وصلت إلى المبنى ووجدتُ عند الباب الخارجي عجوزاً غير مسلح قلت له إنني على موعد مع الوزير المستر سايمون، فسمح لي بالدخول، وقال لي أن أصعد إلى الطابق الثاني، وأذهب إلى آخر الممر، وفعلت. وكان هناك حارس عجوز آخر وراء مكتب على زاوية من البناء المربع، أشار عليّ أن أذهب إلى الباب الرابع على اليمين حيث وجدتُ عدداً من السكرتيرات، نظرتْ إليّ واحدة منهن مبتسمة مرحّبة، وقالت: مستر كازان؟ وقلت نعم. فأدخلتني على الوزير. في تلك الأيام لم يكن هناك تفتيش وسلاح، أو أشعة سينية (اكس)، فهذا كله جاء بعد الإرهاب والإرهابيين، ولم نحرر فلسطين وإنما خسرنا البقية وسمعتنا معها. وكنا خير أمّة أُخرجت للناس وصرنا آخر الأمم، والله المستعان. [email protected]