كنا قد خصصنا حديثنا في حلقة الأمس عن رحلة الفيصل رحمه الله إلى بريطانيا تلبية لدعوة وجهها الملك جورج الخامس إلى السلطان عبدالعزيز رحمه الله في احتفالية بانتصار المملكة المتحدة وحلفائها في الحرب العالمية الأولى لينوب الفيصل عن المؤسس في رحلة تكللت بالنجاح الباهر بعد أن أجبر فتى الثلاثة عشر ربيعاً كبار الساسة والزعماء على الانبهار بحنكته ودهائه والخضوع لقناعاته ورغباته. واليوم نواصل القراءة في ملفات تلك الرحلة المظفرة التي سنت سياساتنا الخارجية مع دول العالم في مراحلها الأولى وشهدت ولادة سياسي محنك أبهر العالم أجمع بنبوغه منذ نعومة أظفاره. بداية لابد لنا أن نعرج بالحديث على حقيقة مفادها أن رحلة جلالته إلى بريطانيا والتي استمرت قرابة الستة أشهر في العام الميلادي 1919م لم تكن رحلة سياحية أو استجمامية بتاتاً بل كانت رحلة سياسية محضة تهدف في المقام الأول إلى معرفة موقف الحلفاء الذين انتصروا للتو في الحرب العالمية الأولى حيال القضايا العربية والإسلامية والشأن الشرق أوسطي ولعل هذا يعزز ما يكتنزه جلالة الملك فيصل من ثقة ومكانة في قلب والده المؤسس الأعظم الذي أوكل أمراً جللاً كهذا للفيصل وهو لم يتجاوز بعد الثلاثة عشر ربيعاً من عمره وكما قيل قديماً على قدر أهل العزم تأتي العزائم فقد كانت عزيمة الفيصل قوية ومتقداً بالحماس لكسب هذه الثقة الكريمة من والده المؤسس فمثله أروع تمثيل وأجبر دهاة الساسة وكبار الزعماء وعظام اللوردات على الانبهار بحنكته ودهائه والرضوخ كما أسلفنا لآرائه وقناعاته وقد سجل له التاريخ ذلك بمداد من ذهب على صفحاته الخالدة ولعلنا لا نبالغ حين نقول أن تلك الرحلة شهدت تحول فتى من عباب صحاري نجد إلى سياسي محنك وداهية سحر الألباب في البلاط الإنجليزي والقارة الأوروبية جمعاء. وعلى ذات الصعيد لابد لنا من التأكيد على أن الأمر لم يقف عند هذا الحد فقد أجبرت المواقف الخالدة التي تركها الفيصل في رحلته الخارجية الأولى عدداً من كبار الساسة والكتاب على تخصيص جزء من مدادهم الأدبي ومذكراتهم التاريخية وكتبهم المشهورة عن ذلك الفتى الذي أتى من صحارى الجزيرة العربية لكنه أجبر العالم أجمع على الافتتان بسجاياه والانبهار بخصاله وطباعه وحنكته ودهائه ومواقفه وكلماته فألفت فيه الكتب وكتبت فيه الروايات وهو لا يزال في الثالثة عشرة من عمره. فقد أصدر المستر همفري بومن كتاباً أسماه (نافذة الشرق الأوسط) وردت فيه مواقف ومشاهدات عن الفيصل تعود إلى فترة تواجده في انجلترا في رحلته الأولى سنة 1337ه التاريخية والتي أوردها مؤلفه وافرد لها مساحات جيدة عن هذا الأمير المعجزة الذي استطاع أن يلفت أنظار السياسيين والبريطانيين, كما تحدث المؤلف في كتابه ذكرياته مع الأمير الفيصل بن عبدالعزيز ومن كانوا في معيته من المرافقين ساعده في ذلك كونه كان منتدبا رسميا من قبل الحكومة البريطانية لمرافقة جلالة الملك الفيصل المعظم والوفد المرافق له طوال المدة المستغرقة للرحلة التي وصلت إلى لندن ثم تنتهي مهمته فيقول المؤلف همفري بومن: (لم يكن فيصل يكترث للمراسيم وما كان ليحب الظهور فضلا عن أن يقاتل عليه, فهو مثال اللطف والوداعة). كما تمكن المؤلف من الالتقاء بجلالة الملك الفيصل المعظم خلال رحلة العودة إلى الوطن بعد انتهاء مهمته في أوروبا لينقل انطباعات ومرئيات جلالته تجاه الرحلة وفترة تواجده بانجلترا حيث أوردها في سفره (نافذة الشرق الأوسط) فيقول المستر بومن : (لقد سأله أحد الأصدقاء أن كان البرلمان الانجليزي أعجبه، فأجابه الفيصل : نعم ...! وقد أعجبني كثيرا ولكن مجلس اللوردات هو الأروع بين الاثنين، ولما سأله عن السبب قال الفيصل مبتسما : إن لمجلس اللوردات قبة حمراء ذهبية وأما مجلس العموم فهي سوداء قاتمة). ولم تقف روايات الأوروبين عن الفيصل على هذا القدر ولم تقتصر كتبهم على كتاب (نافذة الشرق الأوسط) للمستر همفري بومن بل تجاوزت ذلك إلى كتب أكثر وآفاق أوسع حلق فيها الغربيون إلى آفاق رحبة تناقلوا فيها روايات ومواقف هذا الفتى النابغة والسياسي المحنك الذي لم يروا له مثيلاً . وفي قصة أخرى مشابهة لسابقتها جاء ذكرها في كتاب اسماه مؤلفه (ابن سعود) وهو للكاتب الفرنسي من أصل عربي أنطوان زيشكا الذي ضمنه مؤلفه بهذه القصة الطريفة لزيارة جلالة الملك فيصل بن عبدالعزيز إلى لندن في رحلته الخارجية الأولى ، وهي :(استقبل سمو الأمير فيصل .. موظفاً في وزارة الخارجية البريطانية برتبة عسكرية غير كبيرة ..وتولى الحديث معه، ولكن الأمير لم يكن راضيا لا عن هذا الموظف ولا عن طراز حديثه معه، ولاحظ بعض موظفي وزارة الخارجية استياء الأمير .. فتداركوا وقالوا لسموه أن اللورد كروزن وزير الخارجية في انتظاره ورافقوا سموه إلى مكتبه. وفي مكتب وزير الخارجية البريطاني أظهر اللورد كروزن حفاوة بالغة بالأمير وأراد أن يعمل كل ما يسره ..ولكنه كان يعامله كطفل فقدم له قطعا من الحلوى وحدثه عن حدائق لندن، ولم يقل الأمير فيصل شيئا ..ولكنه غادر لندن إلى باريس في اليوم التالي لمقابلته اللورد كروزن، فاهتز المكتب السياسي واهتزت وزارة الخارجية ..وأرسلوا بسرعة مندوبا خاصا إلى باريس ليعتذر وليسترضي سموه، وكلفوا فيلب بعد ذلك في أن يكون مرافقا له في لندن واعدوا له برنامجا يتضمن زيارة ميادين الحرب ونحو ذلك وشرعوا في البحث معه في الأمور السياسية). وهكذا تتجلى أمام ناظرينا حقيقة مفادها كيفية سحر هذا الفتى اليانع لألباب كبار الساسة وهزه للبلاط الإنجليزي غير مرة فضلاً عن ما يكتنزه جلالته من حنكة سياسية ودهاء فطري ومهابة وذوق رفيع وخلق عالي سما بجلالته إلى آفاق لم يعهدها الأوروبيون ولم يتوقعوها فانبهروا وافتتنوا به وأجبروا على الرضوخ له واحترام قناعاته فكانت له مكانة كبرى ومنزلة عظمى في نفوسهم لتؤتي زيارته أكلها وليؤدي مهمته بنجاح واقتدار بعد أن ترك انطباعاً خلدته تلك الزيارة إلى يومنا الحاضر ولعلي أذكر أني وخلال تغطيتي لإحدى المناسبات الرياضية في الخارج وخلال إحدى المؤتمرات الصحفية التي شهدت تواجد العديد من رجال الصحافة والإعلام من مختلف أقطار المعمورة حينما كنت أقوم بتغطية إحدى المؤتمرات الصحفية أثناء تغطيتي للعدوان الإسرائيلي على لبنان في حرب تموز الشهيرة 2006م حيث دار بيني وبين أحد الزملاء الإعلاميين الغربيين حوار تجاذبنا خلاله أطراف الحديث في محاولة مني لكسر جمود ورتابة وقت الانتظار إلا أنه فاجأني فور علمه بجنسيتي أن خرج بحديثنا عن الرياضة وأدار كفته صوب خصال وسجايا الملك فيصل التي ذكر أن الأوروبيين وخصوصاً البريطانيون الذي ينتمي إليهم لن ينسوهاً أبداً وسألني إن كنت قد قرأت كتاب جيرالد دي جوري والذي عنونه بفيصل ملك المملكة العربية السعودية فأجبته بالنفي فامتعض وطلب مني ضرورة قراءة هذا الكتاب الذي يتحدث عن ملك بلدي على لسان سياسي وكاتب غربي لتحمر وجنتي خجلاً ولأعده بقراءة ذاك الكتاب لأفاجاً بمواصلته الحديث الذي يبدو أنه راقه كثيراً فانطلق يحدثني عن مآثر هذا القائد المحنك ليؤكد العجوز البريطاني أن المملكة العربية السعودية والعالم العربي خسر شخصية عظيمة فرضت نفسها على المسرح العالمي باعتبارها أنموذجاً للحكمة والاعتدال والاتزان وعنصراً فعالاً من عناصر الاستقرار والاطمئنان في عالم يسوده الاضطراب .. وهنا دخل المسؤول ليصمت الصحفي ولتنتهي محادثتنا التي كان الفيصل محورها الأوحد بعد أن بدأ المؤتمر!. وعودة لتلك الرحلة الخارجية الأولى فمن مآثرها الثمينة اعتراف لندن الرسمي باستقلال دولة ابن السعود واعترفت به ملكاً للحجاز وسلطاناً لنجد وملحقاتها كما أثمرت عن معاهدة تعاون بين البلدين كان للفيصل الجهد الأكبر بعد الله في حدوثها كما يرجع له بعد الله في العلاقات القوية والمتينة التي تربط المملكة العربية السعودية بالمملكة المتحدة ودول الاتحاد الأوربي والعديد من الدول الغربية والعالمية اليوم كونه كان أول من أسس تلك الروابط وأجبر قادة وزعماء وساسة تلك البلدان على الافتتان به والانبهار بمواقفه والرضوخ لقناعاته وقراراته وطلباته التي أثمرت في الماضي الشيء الكثير ولا تزال تلك الروابط متأصلة حتى يومنا الحاضر.