أثارت زيارة الرئيس المصري محمد مرسي أخيراً إلى روسيا جدلاً غير مسبوق، بتأثير الأوضاع الداخلية في مصر. وكان لافتاً أن الغالبية العظمى من التعليقات والمتابعات للزيارة تناولت مسائل لا علاقة لها بمضمون المحادثات التي أجراها مرسي أو نتائجها، بل توقفت عند قضايا مثل طريقة استقباله في المطار، ولماذا جرى اللقاء مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين في منتجع سوتشي وليس في العاصمة. وقبل الدخول في تفاصيل الملفات التي نوقشت خلال الزيارة، بشقيها الآني أو البعيد المدى، لا بد من تسليط بعض الضوء على العنصرين الذين أثارا سجالات ساخنة في مصر دفعت بعض الكتاب إلى مطالبة مرسي ب «قطع العلاقات مع روسيا أو التنحي احتراماً لهيبة مصر ومكانتها». الأكيد أن الدعوة حملت تجاهلاً متعمداً للبروتوكولات التي تنظم عمل الديبلوماسية الروسية في شأن زيارات الرؤساء الأجانب، وبدت أشبه بمحاولة تصيد «أي خطأ» لتوظيفه في المعركة السياسية الداخلية في مصر. فقد تناول كثيرون مسألة استقبال محافظ مدينة سوتشي لمرسي في المطار باعتبار ذلك «إهانة روسية لمكانة مصر» في تجاهل لحقيقة أن استقبال الرؤساء الأجانب في روسيا يتم عادة بالطريقة ذاتها، وفي حال جرى اللقاء في العاصمة موسكو فإن أحد نواب رئيس الوزراء أو أحد نواب رئيس البرلمان يكون على رأس المستقبلين في المطار، بينما يقوم رئيس الدولة باستقبال ضيفه في قاعة الاجتماعات في الكرملين، أما إذا كان اللقاء في مدينة أخرى فيقف على رأس المستقبلين محافظها مع أحد نواب وزير الخارجية. وهذا الأمر انسحب على الزيارات التي قام بها الرئيس المصري السابق حسني مبارك إلى روسيا. أما العنصر الثاني الذي أثار جدلا فهو مكان اللقاء في سوتشي، ومعلوم أن الرئيس الروسي يستقبل عددا كبيرا من ضيوفه في هذا المنتجع كل عام مع حلول بداية الربيع إلى نهاية الصيف. وكان بوتين افتتح عشية زيارة مرسي بطولة العالم بالهوكي في سوتشي، كما شارك في فعاليات عروض تقديم للصحافة الرياضية المختصة اشتملت على المنشآت الرياضية التي تم إنجازها تحضيراً لاستضافة أولمبياد 2014. أهمية شرح تفاصيل العنصرين السابقين تكمن في أنهما تقدما في تعليقات الصحافة المصرية على موضوع الزيارة نفسها والملفات التي طرحت خلالها. ولا شك في أن زيارة مرسي على رغم الخلاف حول جدوى اختيار هذا التوقيت لها، تكتسب أهمية كبرى بالنسبة إلى مصر وروسيا على السواء. إذ حملت الملفات التي ناقشها مرسي مع نظيره الروسي بعداً ملحاً بالنسبة إلى القاهرة على المستويين القصير والبعيد المدى. وفي الأول حمل مرسي رزمة طلبات إلى الروس اشتملت على محاولة «جس نبض» موقف موسكو حيال منح مصر قرضاً عاجلاً تراوح قيمته بين بليونين وثلاثة بلايين دولار، كما طلب زيادة حصة مصر هذا العام من صادرات القمح الروسي، علماً بأن مصر تعد أبرز شريك لروسيا في هذا المجال، وشغل موضوع الموسم السياحي الجديد حيزاً من الاهتمام مع محاولات القيادة المصرية التأكيد على أن الوضع بالنسبة إلى السياحة الروسية إلى مصر لم يتأثر بالوضع الداخلي وأن المناطق السياحية «مستقرة وآمنة» ومعلوم أن نحو مليونين ونصف مليون سائح روسي يزورون مصر سنوياً، وتراجعت هذه النسبة بشكل حاد في عام 2011 بعد ثورة «25 يناير» لكن معدلات السياحة الروسية عادت إلى حجمها الطبيعي بعد مرور عام وتأمل القاهرة في أن يحافظ الموسم الحالي على معدلات نموه. في الملف السياحي لم يواجه مرسي صعوبات في النقاش مع بوتين الذي بادر بالإشادة ب «تواصل اتساع السياحة الروسية في مصر» على رغم أن مناقشة هذا الملف لم تكن كما يبدو بين الاهتمامات الرئيسة لمرسي الذي لم يصطحب معه في الزيارة وزير السياحة المصري، على رغم أهمية ملف السياحة بالنسبة إلى العلاقات بين البلدين. لكن مسألتي القرض وزيادة صادرات القمح الروسي لم يقابلا بحماسة روسية زائدة، واكتفت موسكو بالإعلان عن تحويلهما إلى «الجهات الوزارية المختصة» ما يعني أنهما سوف يشهدان مزيداً من النقاشات وربما يخضعان لعمليات أخذ ورد تطول فترتها. بهذا المعنى فشل مرسي في إقناع الروس بمساعدته على تجاوز ملفات عاجلة، على رغم أنه جهد في توظيف «العلاقة التاريخية» بين موسكووالقاهرة، والتطلع «لتعزيز التعاون الإستراتيجي ومنحه أبعاداً أوسع» وحتى أنه قدم إشارات لروسيا تدل إلى استعداده للاقتراب كثيراً من موقف موسكو حيال التطورات الجارية في الشرق الأوسط، فهو أشاد «باعتدال» الموقف الروسي في الشأن السوري، وتعمد تجاهل تصريحات سابقة له بأن الحوار مع نظام الرئيس السوري بشار الأسد لم يعد ممكناً، فقال لبوتين أن القاهرة تدعم دعوة روسيا للحوار على أساس اتفاق جنيف وترى فيها المخرج الأنسب. في مقابل الإخفاق الظاهر (حتى الآن) في الملفات الآنية التي كان مرسي يحتاجها بقوة، وضعت الزيارة أساساً برأي خبراء روس لعملية دفع نوعية قد تشهدها العلاقات بين موسكووالقاهرة على المدى البعيد. وهذا ما ظهر بوضوح خلال مناقشات التعاون في المجال النووي والعرض المغري الذي قدمه مرسي للروس من أجل الشروع في مفاوضات للاتفاق على استئناف البرنامج النووي المصري للاستخدامات السلمية بتقنيات وخبرات روسية. هذا الملف حيوي بالنسبة إلى روسيا التي كانت تراهن على توقيع اتفاقات لإنشاء محطات نووية للطاقة الكهربائية مع الإمارات والأردن وغيرها من البلدان العربية، لكن أحلامها تقلصت تدريجياً خصوصاً بعدما وقعت الإمارات عقداً مماثلاً مع الفرنسيين. باختصار تفتح دعوة الرئيس المصري باباً مهماً يحتاجه الروس بشدة. كذلك كان اقتراح التعاون مع موسكو في مجال الغاز الطبيعي واحتمالات منح موسكو تسهيلات للتنقيب والاستخراج مدخلاً مطلوباً من جانب موسكو لاستعادة «علاقات استراتيجية» مع مصر. خصوصاً أن الروس يجرون مفاوضات مماثلة مع البلدان المجاورة وخصوصاً إسرائيل ولبنان وقبرص. ويأتي في السياق الحديث عن المساعدة الروسية المطلوبة في عملية إعادة تحديث توربينات السد العالى. وربما تطوير البنى التحتية لقناة السويس وهو مشروع ضخم تتطلع موسكو إلى الاستثمار فيه. بهذا المعنى وعلى المستوى البعيد يمكن فهم تعليق وزير الصناعة والتجارة الخارجية المصري حاتم صالح على نتائج الزيارة قائلاً: «زيارة الرئيس محمد مرسي إلى روسيا أحيت المفاوضات المصرية الروسية حول تحرير التجارة بين البلدين وأعطتها دفعة كبيرة». بمعنى آخر قدم مرسي لموسكو أوراقاً تتطلع إلى استخدامها، خصوصاً أن الدخول إلى مشاريع عملاقة في مصر من شأنه أن يحمل رداً على تقديرات متشائمين في الداخل الروسي اعتبروا أن السياسة الشرق أوسطية للثنائي «بوتين- لافروف» أضرت كثيراً بمصالح موسكو في المنطقة على المدى البعيد. لكن وعلى رغم ذلك استبعد خبراء روس أن تسير عجلة التعاون الروسي – المصري بسرعة، إذ مع اهتمام موسكو بالبعد «الاستراتيجي» للتعاون لكنها لا ترغب كما يرى خبراء في تقديم قروض مالية لدعم سلطة مرسي من دون مقابل واضح. والمقصود أن النقاش قد يتجه خلال المرحلة المقبلة إلى طبيعة التعاون المحتمل على المدى البعيد لجهة احتمال أن تبادر موسكو إلى عرض استثمارات في قطاعات حيوية كبديل عن القروض المالية المباشرة. يبقى أن ملف العلاقة مع جماعة «الإخوان المسلمين» ظل مثيراً للتساؤلات، فالجماعة مدرجة على لائحة الإرهاب الروسية منذ عام 2006 ولم تعلن موسكو عن مبادرة لتسوية هذا الموضوع الذي يحتاج استصدار قرار قضائي خاص، على رغم أنها لم تخف في المقابل انفتاحها على العلاقة مع ممثلي الجماعة أو الحزب السياسي المنبثق منها. وفي رد لافت على سؤال لأحد الصحافيين حول هذا الملف قال الوزير سيرغي لافروف إنه أجرى ويجري لقاءات ومحادثات مع ممثلين ومقربين من هذه الجماعة. ما يعكس أن واقع إدراجها على لائحة الإرهاب لا يشكل هاجساً بالنسبة إلى النخبة السياسية الروسية التي لم تسارع في المقابل إلى إعلان نيتها مراجعة هذا الموقف وشطبها من اللائحة.