بعد أن كتب عن الحفاوة التي استقبل بها السياسي الهولندي «فان دروين»، الذي أنار الله قلبه بنور الإسلام، وقد كان بالأمس من أشد الناس عداوة وبغضاً لهذا الدين، تساءل الأستاذ خلف الحربي في مقالته «المسيء الهولندي والمسيء المحلي» (صحيفة «عكاظ»: 23 نيسان (أبريل) 2013)، بالقول: «لا أدري لم تذكرت أثناء قراءتي لهذا الخبر قصة أكثر من شخص اتهم محلياً بتهمة الإساءة للدين الحنيف أو التعرض لمقام النبي «صلى الله عليه وسلم»، على رغم أن بعضهم مهما بلغ خطؤه، ومهما تم تأويل كلماته فإن إساءته لا تعد شيئاً أمام إساءات «فان دروين» للدين الحنيف؟ بعض هؤلاء تراجع عن خطئه عبر «تويتر»، مثل فان دروين بالضبط، ولكن تراجعهم لم يكترث به أحد، بل اتخذه البعض حجة عليهم، بينما صاحبت عملية إسلام فان دروين احتفالية واضحة... فما الفرق بين الحالتين؟». تذكرت وأنا أقلّب سؤال خلف في رأسي قصة واصل بن عطاء، أحد رؤوس المعتزلة الأوائل، مع جماعة من الخوارج. إذ يُحكى أن واصل كان في قوم على سفر، فإذا بخيول الخوارج تطوقهم، ولما تيقن القوم من الهلاك، قال واصل لأصحابه: لا عليكم ودعوا الأمر لي، ثم أقبل على الخوارج، وقال لهم نحن مشركون، والله يقول في قرآنكم: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون)، فلما سمع الخوارج بذلك، أمّنوا القوم على أنفسهم وأجاروهم حتى بلغوا مأمنهم». بعض الناس في مجتمعنا أشبه بالخوارج في مذهبهم، فلو أن كافراً فتح الله صدره للإسلام بعد أن كان بالأمس يكيد له المكائد ويحيك ضده المؤامرات، لاستقبلوه استقبال الأبطال ولحملوه فوق الأعناق، وكأن شيئاً ما كان، ولو أن مسلماً أضله التفكير، أو خانه التعبير، لهيجوا عليه العوام، ولحكموا عليه بالكفر والزيغ والضلال، حتى لو عاد عن غيه وثاب إلى رشده، ثم إن المسلمين ليسوا تماماً كأسنان المشط؛ فهناك المسلم الموصوف بين الناس بالورع والتقوى، وهناك المسلم الموصوف بينهم بالتحرر والتبذل، فالصنف الأول، مهما تعددت زلاته وزادت هناته، فذنبه مغفور وخطؤه مجبور، ودونك الداعية الجماهيري مثالاً صارخاً، أما الصنف الثاني، فكلمة من فمه أو نقرة من أصبعه تكفي لكي تخسف به وتحجبه وراء الشمس، وساعتها لن يكفيه ولو استغفر ربه وأناب! وبعيداً من شهوة التكفير التي تجري في عروق كثير من الناس، فإننا إزاء وجهين للخطاب الديني؛ أحدهما معد للتصدير الخارجي، والآخر للاستهلاك المحلي، الأول يتسم بالانفتاح والمرونة والاعتدال، والآخر يتسم بالانغلاق والجمود والتطرف. فنحن عندما نتحدث مع الآخر، ولأغراض سجالية أو تسويقية، عن الحرية في الإسلام، فإننا نحرص على تعشيق خطابنا وتلوينه بالعشرات من الآيات القرآنية الكريمة عن حرية الاعتقاد، ولكننا لا نلبث أن نتغافل عما يموج به القرآن من آيات تنص على ضمان واحترام حرية الإنسان بمجرد أن نرتد على أعقابنا. وعندما نتحدث كذلك للآخر عن مكانة المرأة في الإسلام، فإننا ننفض الغبار عن آيات وأحاديث ومواقف وكلمات ترفع من قدر المرأة وتساويها بالرجل في الحقوق والواجبات، ولكننا سرعان ما نخلع أقنعة التنوير ونرمي بأوسمة الحداثة فور عودتنا للداخل، فلا نتذكر بعدها سوى قوامة الرجل ونقصان عقل المرأة ودينها، وبالمثل، فإننا لا نجد عند تذكير الآخر بإسهامات المسلمين في سيرورة الحضارة الإنسانية نماذج أفضل من أبي بكر الرازي وابن سينا وابن رشد، ولكننا لا نستعيدهم في ما بعد إلا للتشنيع بهم والتعريض بفكرهم. أخشى، والله أعلم، أن الفارق بين المسيء الهولندي والمسيء المحلي هو كالفارق بين الخبير الأجنبي والخبير المحلي، فالأول، مهما كان أقل من الثاني علماً وموهبة، فهو المدلل والمفضل والمقرب... هل نحن أمام وجه آخر من وجوه «عقدة الخواجة»؟ لا أعلم... ربما! [email protected]