إن لب الأزمة في مصر هو استمرار وجود مسافة بين النخبة (حكاماً أو معارضة) والشعب (نبض الشارع)، كما أن سيطرة التطرف الديني جعلت الاعتقاد بأن الأمور كلها قطعية (حلال أو حرام، شريعة أو لا شريعة... الخ)، واختفت مساحة التسامح والحد الأدنى من المصلحة المشتركة والمصير الواحد والالتزام الوطني القومي (بل إن البعض أصبح يشكك في مفهوم الولاء للدولة ورموزها من تحية علم وقسم وحتى عروبة الدولة). وعلينا جميعاً إدراك أن هذا ليس وقت الخلافات ولا زمن الميول الاستعراضية ولا مناسبة التنافسات الحزبية (الفصيلية) لأن المسؤولية جسيمة والظرف القومي حرج والمطلوب وحدة الفكر ووضوح الرؤية وحكمة الحضارة. فالخلاف والصراع والحرب كلها قرارات يمكن للفرد العادي اتخاذها، على عكس التصالح والسلام والتنمية التي تتطلب جهداً كبيراً وعملاً أكبر، ورؤية واضحة وممكنة تستند إلى الحق وتتأسس على العدل، وتحمل درجة كبيرة من التوازن بين مكوناتها. والأكيد هنا أن الاختلاف (وليس الخلاف) والتعدد السياسي فيهما ثراء وتعدد للسبل والاتجاهات وبالتالي الحلول والمناهج، وهما مصدر قوة خصوصاً في السياسة الخارجية من قبيل توزيع الأدوار بين الاتجاهات اليمينية والدينية واليسارية في خدمة الأغراض الوطنية والإقليمية، ونموذج إسرائيل هو أكبر دليل على نجاح هذا الاستخدام، فالمفاوض الإسرائيلي محكوم بديموقراطية دولته، وكل ما يصل إليه معلق في النهاية بموافقة القوى السياسية والتجمعات البرلمانية المختلفة. إن علاقتنا ببعضنا بعضاً هي أزمة (وليست مرضاً)، أزمة الصحوة المفاجئة على واقع مليء بالأخطاء، تتكشف فيها فجأة -وبملامح واضحة ومكتملة وبلا تاريخ سابق من الاضطراب والتوتر والصدمات- حالنا، فالأزمة حالة صراع موقتة في موقف صعب فيه تحديات كثيرة تضعف فيها القدرة على تقدير الأمور ويختلط فيها الصواب بالخطأ وحسن التصرف بخيبة الاختيار، ما يستدعي لحظة توقف وإعادة تقييم وتحديد الهدف والتأكد من صحة الاتجاه لتحقيقه، ويتطلب ذلك الحكمة والوعي والقدرة على خوض الصعاب. والأزمة معركة تتطلب جهداً وصبراً وطاقة وتحملاً وقبولاً للماضي (والاستمتاع وعدم إنكار إنجازاته) من دون التعلق بأهدابه، لنعيش الحاضر وندرك الجديد فيه، فكأننا نعيد بناء الأمة، ففي كل مرحلة من تاريخ الأمم هناك آباء مؤسسون، يكون دورهم التوصل إلى توافق، ليس على أسس ومنهج التوازنات السياسية والحصصية، ولكن على أساس إرادة الأمة (وليس المجموع) وتقدير مصلحة المواطن البسيط والوطن ككل، فلحظة البناء مختلفة عن حالات الإدارة والحكم. إذاً علينا أن نعيش الأزمة، أزمة الضعف التي لازمتنا وأضعفت مقاومتنا، حتى أصبح كل تحد يتحول مصيبة والمصائب (التحديات) لا تنتهي في هذا الزمان، ولا سبيل لعلاجها إلا بالبحث عن جذور مشاكلنا (ومعظمها قديم) وفض الغبار عنها، وتكشف المزيد عن أنفسنا وعن معاني الأشياء (ففي الأزمات تسقط القناعات ويظهر العجز - أو القدرة - على اتخاذ القرارات وتقديم الإجابات)، وفهم التغيرات التي تحدث والمشكلات التي تنتج منها، فالأزمات تزيد من وعي الشعوب وتسمح لها بآفاق جديدة للنمو والإصلاح، ومواجهة التحديات تقدم أعظم فرصة كي تترقى الأمم في مدارك الحياة وتصبح أكثر توافقاً مع الوطن والعالم، وتتخلى عن أحادية التفكير فتتعدد أهدافها واحتياجاتها وبالتالي تلبيتها بسبل متنوعة، وتتعامل مع احتياجاتها الحقيقية والعاجلة، ولا تنقاد إلى التكيف مع كل شي وتقر الحق في المقاومة. والأهم أن الأزمة تؤهل للعودة إلى العمل الأهلي في الشارع وداخل الأحياء وفي النقابات والمحليات، فهذه هي مفرخة السياسة الناجحة والعمل الاجتماعي ومن ثم السياسي الحقيقي. ومصر تمتلك كل مقومات المجتمع المدني القوي من وفرة العقول وتميز الطاقات البشرية والتراث الاجتماعي الراسخ والتقاليد الثابتة، ومع ذلك لم تتمكن من توظيف هذه المقومات لتحقيق المجتمع المدني المعاصر، فهناك نقص من الناحية التشريعية، كما أن التراخي والسلبية الاجتماعية والاعتماد على الدولة أضعف محاولات التعاون وحوافزها. كما أن أول السبل إلى المستقبل هو القضاء داخل المجتمع على شهوة الانتقام وتصفية مصادر الظلم الاجتماعي والفقر المادي والقصور التعليمي والبطالة (الحقيقية أو المقنعة) ووقف الاختناق السياسي لتشرق شمس الحريات العامة وتجف ينابيع العنف والتطرف والإرهاب وتموت جذوره. وعلينا إدراك انه لا توجد قضايا بسيطة أو إجابات سهلة، ولا يمكن تقسيم العالم إلى طيب وشرير، وأن البشر هم تركيبة معقدة وغامضة تجمع الخير والشر، الإيثار والطمع، والمهم هنا أن نحترم القواعد التي تحكم تعاملاتنا وألا نحكم على فريق كامل من البشر بغض النظر عن قدراتهم الفردية أو نصفهم بشي ما فهذا يعنى الاحتكام إلى قواعد لا أخلاقية، والنظرة التعصبية، ولا أحد يقر التعصب أو يرغب فيه فعواقبه جسيمة ولا نهاية لتطرف التعصب إلا الفناء. إن الأوطان تحمي أبناءها كما يحميها أبناؤها إذا ما احتاجت اليهم، والفرد مشروع وجود لا يتحقق إلا من خلال الآخرين ومن خلال وطن يحميه. ويعني هذا ضرورة أن نسير جميعاً في الطريق نفسها وعلى مسافات متقاربة وليس متباعدة حتى لا نفقد الاتصال ببعضنا بعضاً، وأن نبني الثقة في ما بيننا فتختفي الأزمة عندما نشعر بالأمان على مستقبلنا، وأن سندنا في الوطن ومن الوطن موجود، وأن يتوافر الحد الأدنى من الثبات والقدرة على الاستمرار والعمل (فالعمل عبادة ذوي الأخلاق العالية) لمواصلة النجاحات -حتى لو كانت بسيطة- وسد فجوة التوقعات بين الطموحات الكبيرة والواقع.