«كم البعيد بعيدٌ كم هي السبل نمشي ونمشي إلى المعنى ولا نصلُ» محمود درويش ما المعنى الذي تريده أيها الساري؟ ألا ترى بأن الليل طويل جداً؟ ودروبك. ألا ترى بأنها مستعصية؟ أي الطرق ستسلك أيها الساري كي تصل إلى معناك الذي تنشد؟ كلما ذهبتَ إلى المرآة وجدت شخصاً آخر يرمقك، طريقك إليك ليس أنت. هكذا يأتي الصوت موبّخاً الذات القلقة التي ترى الضفة المقابلة عنواناً للنجاة، فتبحث عن أي شيء يوصلها إلى هناك حتى لو كان ذلك على حساب ذات أخرى «الغاية تبرر الوسيلة». أين تقف الآن؟ كم المسافة بينك وبين نفسك؟ كلما وقفت في دائرة قذفك شيء لا تعرفه إلى دائرة أخرى.. إنها حلقات الشقاء الأبدية التي ظلّتْ تحرك الإنسان وتدفعهُ للتفادي. هذا التفادي الذي كان المحرّك الأول لكل المنجز الإنساني، ولكن إلى أين كان يريد الذهاب؟ هل سيكون منطقياً وعادلاً أن تكون حياة الإنسان مبنية على ردود الفعل؟ إن سلّمنا بأنها كانت كذلك فإننا نسائل ردود الفعل عن مقدار مساواتها للفعل الأصلي - الحياة - وكذلك نطعن فكرة الإبداع في ظهرها وهذا ما نرفضه، فلا يوجد إبداع حقيقي كان رد فعل لشيء ما. إن ما يدفعنا للبحث عن المعنى هو أن حلقات الشقاء امتدتْ أكثر من اللازم، فكان من الصعب جداً أن نظل محتملين صخرة الشكّ هكذا من دون أية نهاية! - تعبنا..؟ - نعم تعبنا، كان يجب أن نقول ذلك منذ مدة ومن دون أن نخجل من ذواتنا، كان يجب أن نصرخ منذ مدة قبل أن يفقد الصوت موهبة الصدى. * حتى الذي لا يخاف.. فإنه يخاف من أن يقال عنه بأنه يخاف! هكذا تنتصر اللغة علينا وتضعنا في فخها الأعظم وتلقي بقبضتها علينا * نحن نسقط في الموت كلما تمدد بنا الوقت.. وكل شيء نقوم به ليس إلا محاولة فاشلة للتمسك بالحياة: - الشاعر يعي جيداً بأنه راحل ومسافر أبدي.. لذا يكتب كي يقول: كنت هنا! - القاتل يرى في وجود الضحية سبباً في فنائه.. إما أنا أو هي! - العاشق يمسك بمعشوقته كي يتفادى السقوط ولا يعلم أنه يعجل من سقوطهما.. الحب مرادف حقيقيٌّ للموت! * أن تذهب إلى الكتابة بعنق حرة وصدر مشرّع وذاكرة رطبة، أن تذهب إلى الكتابة كي تدرّب نفسك على النسيان، النسيان الذي يجعلك تجهل العلاقة بين القاتل والمقتول، الغيمة والمطر، السمك والماء، الأرض وما عليها السماء وما فيها، نسيان يجعلك تربط بين مكونات الواقعي والخيالي ببراءة ليست هي براءة الطفل، وإنما هي براءة تفادينا للذاكرة أو «الكتابة بلا ذاكرة» بحسب أدونيس. كان يجب علينا منذ زمن بعيد - نحن الذين نزعم الكتابة الإبداعية - أن نكون شجعانًا ونتخلى عن هذا الإرث الكبير كي نتنفس كما نريد أن نطرق أبواب المحال بشدة. إنه المحال بعينه نعم، فعن أي إرث نتخلى إن حاولنا ذلك؟ هل نلعن التاريخ بكل جحيمه وقسوته وأكاذيبه؟ أم نتخلى عن إرث اللغة نفسها؟ نحن الذين تحاصرنا اللعنات كألغام في طريق الوقت فكلما تقدمنا قليلاً تربص بنا هاجس الموت في أية لحظة، الموت بالكتابة! أليس هذا جنوناً نسوق له ذواتنا أو نُساقُ إليه في بعض الأحيان؟ فإن كانت الكتابة الشعرية قتلت المتنبي فإنها لن تقتل شخصا آخر بالطريقة نفسها، لكنها ستجره إلى الموت بطريقة ما، إنها تجعله يدور في مربع يخدعهُ بالمستقيم. * شاعر يمني مقيم في السعودية.