لم يوقف التصفيق الحاد، ولا تعالي صافرات الإعجاب دموع الشاب الواقف على خشبة المسرح من الانهمار، كأنه انفجار بعد كبت طويل، فيما تخرج الكلمات مندفعة دون ترو تحكي حلماً تحول إلى حقيقة وواقع. شاكر علي، شاب سعودي «مجهول الأبوين»، ولد وعاش وهو يعاني «كابوس» الانتماء الأسري، فلا حنان ولا توجيه، لكنه صنع نفسه بنفسه، وتحول من ظل إلى رقم يرمي بظلاله على الآخرين، وأنشأ أهم موقع إلكتروني لخدمة المبتعثين من بلاده باسم «سعوديون في أميركا». خص شاكر «الحياة» بقصته الدرامية مستدعياً مسلسل أيامه «المجهولة» بمشاعره المتضاربة «كنت أحتاج أن أشعر بأنني جزء من هذا الوطن الذي أعيش في أحضانه، لكن الخوف والقلق لا يغادراني، خصوصاً عند سماعي لسؤال ظل يلازمني كظلي (ولد مين أنت!!) فتهتز مشاعر انتمائي بعنف، وتتصاعد أسئلة تستحيل تجاهها الإجابات». محاولات هرب الشاب اليافع من واقعه توجت عبر السفر طلباً للعلم في أقاصي الدنيا، ففر إليها جامعاً الغربة والوحدة الموحشة، يقول «لم يكن أحد يتصل بي في الأعياد أو في المناسبات ولو حدث لي مكروه في غربتي لما سأل عني أحد». بسبب جهله ببعض الإجراءات اللازمة في كيفية حصوله على القبول من إحدى الجامعات في الخارج استبعدته البعثة، لكن عزيمته لم تخر، فجدد العزم على الانطلاق. يقول شاكر «هنا صممت أن أغير مستقبلي، بتغيير صورتي النمطية لدى الآخرين... كانوا يرددون بأني بلا مستقبل، وأني سأعيش وحيداً، وسأعود لنفس دوامة الواقع المؤلم، لكني بدأت من الصفر وحيداً، من دون مساعدة أحد، كافحت حتى حصلت على شهادة البكالوريوس، ومع أزمة القبول الجامعي نذرت لربي بأن أساعد أي مبتعث لو وُفقت في الحصول على قبول جامعي، فأوفيت نذري بتأسيس (سعوديون في أميركا)، وطوال الوقت رفضت أن أظهر في وسائل الإعلام حتى لا يعرفني الناس». بصوت تخنقه العبرة يواصل حديثه «عندما نلت البكالوريوس من أميركا انتابتني موجة بكاء ليس لأنه لم يأت أحد لحفلة تخرجي، بل لأني حققت هدفاً شخصياً بأن أصبحت جزءاً من هذا المجتمع، آملاً بأن شهادتي ستشفع لي بالزواج من أفضل نساء الأرض، آملاً بأني سأجد وظيفة لائقة، آملاً بأن تكون نظرة الآخرين تجاهي قد تغيرت... تلك الآمال دفعتني لأكمل مشواري العلمي فدخلت مرحلة الماجستير، وبإذن الله سأتخرج وأعود مرفوع الرأس إلى وطني، إلى مجتمعي الذي أهوى». «مديرو موقع (سعوديون في أميركا) شجعوني للحديث عن قصة تأسيس الموقع، فقد رأوا أنها الفرصة الوحيدة لأرمي بالماضي خلف ظهري، وأنظر للمستقبل بعين أخرى، وبالفعل رويت قصة الموقع التي لا تنفصل عن قصة حياتي» هكذا برر شاكر على دواعي إفصاحه عن حكايته في هذا الوقت، وقال «لم يعد يعنيني الماضي بأي شيء، لأني قلت كل ما كان في نفسي». تلك قصة نجاح باهرة، حققها شاب قست عليه الحياة، وحقق نجاحاً لم يحققه غيره رغم توفر السبل لنجاحهم. يعود الشاب إلى لحظات اعتلائه خشبة المسرح، موجهاً حديثه إلى الحضور «حياتنا كلها أرقام، تقدمت لخطبة 25 فتاة، لكن الرفض كان مصيري، وهذا أحد أسباب بقائي في الولاياتالمتحدة نحو ثماني سنوات». اليوم، يكمل شاكر عامه ال26، ويفخر بأنه أوفى بالنذر، وأسس موقعاً يقدم 30 خدمة لآلاف الطلاب المبتعثين. قال إنه سخّر نفسه لخدمة إخوانه وأخواته من السعوديين، فأصبح يرد على اتصالاتهم، وإيميلاتهم التي يصله منها المئات كل يوم. يواصل حديثه «لا أريد لأي أحد أن يكون وحيداً، فقد جربت الوحدة الموحشة، ولم أجد من يعبأ بي، مرضت في غربتي، فلم يتصل بي مخلوق، ولو متُ لما علم بموتي أحد»! لكنه أثنى على إحدى سيدات المجتمع التي اعتنت به وأدخلته أرقى المدارس، قال عنها «لولا هذه السيدة الرؤوم لطواني النسيان». بعد أشهر من بداية غربته، لم يستطع الحصول على قبول في جامعة، فانقطعت عنه البعثة، وواجه أول الصعوبات، فاتصل بالسيدة الفاضلة، وقال لها: سأعود إلى السعودية، فقد قُطع راتبي، لكنها عاجلته بحزم: ليس لدي أبناء يعودون من أميركا من دون شهادة. فأدرك أن خياره ألا ينسحب من معركة مصيره.