آخر جملة قرأها في الرواية قبل أن يطوي الصفحة: «الغربة ولدت في العواصم أول مرة» تجاوز رغبته في البكاء ونام. المنبه يكاد يكون أحد أكثر الأشياء التي اتفق جميع الناس على كرهه في الحياة، خصوصاً حين يأخذ دور الأم، فقد اعتاد لأعوام مديدة أن توقظه أمه، ثم زوجته، لتستقبله رائحة القهوة والخبز اللذيذ. قمصانه وقد تم كيها بعناية، الدعوة اللطيفة بالتوفيق التي يخفق لها قلبه وهو يتخطى العتبة. في المقهى وبصوت هش طلب القهوة وقطعة الوفل التي اعتاد أن يطلبها كل يوم منذ عام ونصف العام. لم يتغير شيء سوى أنه منذ أن استيقظ هذا الصباح وإحساسه بالأشياء مضاعف. قبل نصف ساعة كان جالساً يبكي كطفل في السابعة من عمره واضعاً رأسه بين ركبتيه بعد محاولات عدة فاشلة لنظم الخيط في الإبرة ليعيد رتق زر قميصه الذي سقط. بلا أي نوع من الاختلاف تمر الأحداث عليه كل يوم كما مرت في الأيام والأشهر السابقة بروتين ممل، نفس المقهى وعلى الكرسي ذاته جلس، الطاولة، الكوب، الملعقة ورائحة القهوة ذاتها. حتى الوجوه الناعسة المتكررة التي تنتظر القهوة لتغسل بقايا النوم عنها جيداً. كلّم نفسه وهو يقلب قطعتي سكر بين يديه: «قطعة سكر لا تشكل فرقاً أمام مرارة الغربة». انتبه إنها لم تكن بالشكل المكعب ذاته الذي اعتاده، بعضها يأخذ شكل قلب والآخر يأخذ شكل نجمة. بخوف مشوب بالتساؤل، قال يحدث نفسه: لعلها إشارات، زر القميص وقطع السكر. وكأنه علي أن أختار هذا الصباح بين قلبي ومستقبلي؟ أيهما سيذوب في قعر الفنجان؟ بعد تفكير طويل ثمة حرب قد بدأت داخله، كانت الخيارات أمامه معقدة، ليست محض قطع سكر، بل قرار مصيري قلب أم نجمة! وضع قطعة واحدة في الفنجان، شرب قهوته، وهو يبتسم للمرة الأولى منذ أن جاء إلى هذه البلاد للعمل. حين خرج ناداه نادل الطلبات الخارجية: إلى أين؟ هل أضعت طريق عملك! بعد ست ساعات في السماء، لم تكن الطائرة التي تحلق، بل قلبه الذي لم يحط إلا على عتبة داره. سألته ابنته بعد أن غمرها بالقبلات: أين هديتي؟ أخرج من جيب قميصه العلوي قطعة السكر التي تأخذ شكل قلب ووضعها في راحة يدها.