عزز الاعتذار الاسرائيلي لتركيا على ارتكاب مجزرة اسطول الحرية التي ذهب ضحيتها 9 أتراك، مكانة تركيا في المنظومة السياسية الدولية، وأكد زعامتها الإقليمية في منطقة الشرق الاوسط. اعتذار ظل يراوح مكانه طوال ثلاث سنوات، حاولت فيها اسرائيل تجاوز هذا المطلب والاستعاضة عنه بصيغ مخففة تلغي البعد السياسي والقانوني الذي يحمله الاعتذار، مثل كلمة «نأسف وأخواتها» التي ظهرت في تصريحات رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتانياهو المعبّرة عن أسف اسرائيل لوجود مواطنين أتراك على متن الأسطول، في محاولة منه لطي صفحة الخلاف، الأمر الذي لم تقبله أنقرة بتاتاً، مشددة على الصيغة نفسها بحروفها وما تحمله من معانٍ في القواميس السياسية والقانونية والأخلاقية. تزامن الاعتذار مع تشكيل الحكومة الاسرائيلية الجديدة، وزيارة الرئيس الأميركي باراك اوباما للمنطقة. إلا ان المتتبع لمسألة الخلاف التركي – الاسرائيلي في هذه القضية لا يرى في الحدثين سبباً لتغيير القرار الاسرائيلي بعدم الاعتذار، فهما اعادة انتاج لتركيبات سابقة، فالحكومة الجديدة نسخة لسابقتها ببرامجها ورؤيتها ودوغمائيتها وشخصياتها التي كانت لها تصريحات سابقة حول استحالة إقدام اسرائيل على مثل هذه الخطوة، كوزير الخارجية ليبرمان، ووزير الدفاع موشيه يعلون، ورئيس الوزراء نتانياهو. فقد عزز هذا الفريق فكرته الرافضة للتسوية على الطريقة التركية بالحفاظ على الإرث الاسرائيلي في زعامة المنطقة الذي قد يتزعزع لمصلحة تركيا الراغبة في تأصيل عمقها الاستراتيجي، وتوسيع تأثيرها السياسي. فعقدة المنشار من وجهة نظرهم هي طبيعة العلاقات الخارجية لمن يحكم في تركيا والتي ترى في اسرائيل عبئاً يثقل كاهل المشروع التركي الجديد نحو العالمية. فضلاً عما يراه هذا الفريق في الاعتذار من اعتراف بجرم، واختراق للقانون، وإدانة للنفس، ما يسهل رفع دعاوى قضائية ضد قادة اسرائيل وملاحقتهم قانونياً على جرائم ارتكبوها. كذلك الامر بالنسبة الى زيارة الرئيس اوباما الى اسرائيل والتي وصفت بأنها «زيارة سائح»، وفي أحسن نعوتها «زيارة تصالح» مع نتانياهو، فقد سبق لأوباما ان توسط لحل الأزمة التركية - الاسرائيلية بالضغط على اسرائيل لتقديم الاعتذار، الأمر الذي رفضه نتانياهو متذرعاً بحتمية انسحاب «اسرائيل بيتنا» من الائتلاف الحكومي إذا أقدم على هذه الخطوة، اضافة الى الضغط الشعبي الاسرائيلي ضد الاعتذار، على حد وصف نتانياهو. لم تنجح الدوغمائية الاسرائيلية في إعادة التواصل والتصالح مع الحليف الاستراتيجي لعقود طويلة، فكانت لغة البراغماتية والتكتيك السياسي والنفعية هي الطريق الأنسب مع مثل دول كهذه. فمن جهة الخسائر الناتجة من هذه الازمة يُجمع قادة اسرائيل على انها المتضرر الاكبر من تأثر العلاقات وانحسارها، ولعل أبرز تجليات هذه العلاقات المفقودة ما يتعلق بالجانب العسكري والاستخباراتي والأمني بين الدولتين والتي قطعت نهائياً بعد تقرير لجنة بالمر الأممية الذي لم يعط الحق أهله، فردت تركيا بطرد الملحق الأمني الاسرائيلي ووقف الصفقات العسكرية وإنهاء المناورات التدريبية. اضافة الى خطوات أخرى في الجانب السياسي من علاقة البلدين، كطرد السفير الاسرائيلي، ولذلك رأينا ان المؤسسة الأمنية الاسرائيلية، وعلى رأسها ايهود باراك وزير الدفاع السابق، طالبت مراراً بتقديم الاعتذار وتغليب المصالح المكتسبة بدل ذلك الانتظار لتراجع المطلب التركي بفعل ضغط الوساطات الأميركية والروسية والبريطانية التي لم تفلح في التخفيف من حدة النزاع . إذاً، تحاملت اسرائيل على نفسها طوال هذه المدة لحفظ ماء الوجه، لكن تطورات منطقة الشرق الاوسط كانت على علاقة عكسية مع جدوى هذا التصبر الاسرائيلي. فالثورات العربية أفقدت اسرائيل حليفاً استراتيجياً آخر في المنطقة هو الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك، ومستقبل سورية ما بعد الثورة مبهم في نسقه السياسي الايديولوجي، لذلك لا بد للمصلحة الاسرائيلية من اعادة حساب التركيبة التحالفية بتحييد من يمكن تحييده، وكسب من يمكن كسبه، فاضطرت اسرائيل تحت هذه المتغيرات الى توجيه البوصلة باتجاه تركيا من جديد التي يزداد نفوذها في المنطقة، فقدمت لها الاعتذار الرسمي المطلوب للدخول الى عتبة اعادة العلاقات بين البلدين مع قناعة القيادة الاسرائيلية بعدم عودة هذه العلاقات الى سابق عهدها، لكن على الاقل ضمان عدم امتداد هذه القطيعة الى النواحي التجارية والاقتصادية التي ظلت محيدة في فترة الخصام المر. ان هذا الاعتذار الاسرائيلي الذي شهد مخاضاً عسيراً لم يكن شرطاً يتيماً لقبول المصالحة بل هناك التعويضات، ورفع الحصار عن قطاع غزة، وهو ما يعني نصراً تركياً قُدّم للفلسطينيين وانجازاً آخر أُضيف الى قائمة انجازات الحكومة التركية التي كان آخرها اعلان عبدالله اوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني وقف اطلاق النار وإتاحة المجال للحراك السياسي والجهود الديبلوماسية من اجل الوصول الى تسوية في المسألة الكردية، وهو ما أدخل حزب العدالة والتنمية الحاكم في حالة انجاز مركب سيرفع من رصيد شعبيته.