تبدأ خلال الاسابيع المقبلة مفاوضات بين الاتحاد الاوروبي والولاياتالمتحدة من اجل إنشاء منطقة تجارة حرة اطلسية. تتحدث بعض الاطراف الاميركية والاوروبية عن هذا المشروع بحماسة كبيرة وتتوقع ان يساهم في وضع حد للأزمات الاقتصادية التي ألمّت بأوروبا والولاياتالمتحدة وأن يؤدي هذا «المشروع الرائع الى توفير فرص عمل للملايين وتنمية التجارة الاطلسية والعالمية». في المقابل، فإن اوساطاً اخرى، اطلسية وغير اطلسية، تبدي تخوفها من الآثار السلبية لهذا المشروع على مجمل التجارة الدولية. البعض من هؤلاء بدأ منذ الآن وقبل ولادة المشروع يتحدث عن «انشلوس اطلسي» ويسترجع ذكريات الانشلوس القديم الذي كان محور صراع دولي قوي. كان الانشلوس القديم في بداية القرن الماضي مشروعاً لضم المانيا والنمسا في دولة واحدة. ولقي هذا المشروع تأييداً واسعاً بين الالمان وحظي قبيل الحرب العالمية الاولى بتأييد الديموقراطيين والليبراليين في البلدين، وفي مقدمهم ماكس فيبر، الفيلسوف وعالم الاجتماع والاقتصاد السياسي الالماني، وغوستاف ستريسمان، احد ابرز الزعماء الالمان في جمهورية فايمار الالمانية وهوغو بريوس واضع دستور الجمهورية. وقد نصح فيبر دول الغرب بتأييد مشروع الاتحاد الالماني-النمسوي، لأنه افضل الطرق لنصرة المانيا المسالمة على المانيا المحاربة والعدوانية. لم تأخذ الدول المنتصرة (الولاياتالمتحدة، بريطانيا، فرنسا) في الحرب العالمية الاولى بهذه النصيحة، وآثرت ان تتضمن اتفاقات السلام النصوص الصريحة «بعدم السماح للنمسا بدخول اية علاقة اتحادية مع المانيا». ولم تقدم الاتفاقات شروحاً لهذا الموقف، ولكن كان من المفهوم ان سببه الرئيس هو الخوف من ان تستعيد المانيا عوامل القوة التي مكنتها قبل الحرب من تبديل موازين القوى القارية، كما حدث بالفعل فساهم في إيجاد مناخات الحرب العالمية الاولى. في تلك المرحلة وصل مجموع الالمان والنمسويين الى 70 مليون نسمة مقابل 39 مليون فرنسي و46 مليون بريطاني. وكانت طاقات المانيا الصناعية والاقتصادية تنمو بسرعة كبيرة، اذ فاق انتاجها من الصلب 17 مليون طن، بينما لم يتجاوز انتاج بريطانيا وفرنسا معاً منه اكثر من 11 مليون طن. وشيّدت المانيا بنى تحتية واسعة بحيث وصل طول سكك الحديد الى 39 الف ميل مقابل 25 الف ميل في فرنسا و23 الف ميل في بريطانيا. وتمكنت المانيا من تكوين جيش قوامه 8.5 مليون جندي، بينما لم تتمكن فرنسا وبريطانيا معاً من تجنيد اكثر من 4.5 مليون جندي. مقابل ذلك، امتلكت بريطانيا ميزة عسكرية كبرى تجسدت في اسطولها الحربي الذي فاق الاسطول الالماني بمرات. ولكن ألمانيا كانت مصممة وتعمل بنشاط على بناء اسطول قوي ينافس الاسطول البريطاني، فكانت هذه النية أحد الاسباب الرئيسة لنشوب الحرب. انتزع النازيون، بعد الحرب العالمية الاولى، مشروع الانشلوس من الديموقراطيين والليبراليين الالمان فنفذوا بالحرب والاحتلال ما دعا الأخيرون الى تحقيقه سلماً، ووظفوا الاتحاد الالماني-النمسوي في خدمة مشاريعهم التوسعية، بدلاً من ان يكون وسيلة لترسيخ السلم والامن في قلب القارة الاوروبية. ومن المفارقات الخطيرة ان الذين امعنوا في حرمان الديموقراطيين الالمان من تحقيق الانشلوس طوعاً ومن الطريق الديموقراطي، تركوا النازيين يمارسون سياسة الإلحاق والإرغام مع النمسا. هذه الملابسات والمفارقات تدعو الذين يتابعون المفاوضات اليوم حول اقامة منطقة تجارة حرة اطلسية الى التبصر في حوافزها وأهدافها ونتائجها المرتقبة. عند قيامها سيكون عدد سكان المنطقة الاطلسية 650 مليون نسمة، وستصبح اكبر تجمع اقتصادي في العالم اذ تبلغ قيمة التجارة بين الاتحاد الاوروبي والولاياتالمتحدة نحو بليونَي يورو يومياً، اي قرابة 30 في المئة من التجارة العالمية. ويصل حجم الاستثمارات عبر الاطلسي الى 2.4 تريليون دولار وفق احصاءات عام 2011. ويقدر الموقع الالكتروني للبرلمان الاوروبي انه اذا أُزيلت الحواجز الجمركية وغير الجمركية بين الاتحاد والولاياتالمتحدة، فإن ناتج الدخل العام سيزداد في الاتحاد الاوروبي وحده بمعدل 0.5 في المئة. لذلك يرى جوزيه مانويل باروزو، رئيس المفوضية الاوروبية، ان الاتفاق الاوروبي-الاميركي المرتقب سيكون لمصلحة الجميع (win-win solution). فهل الحديث هنا هو عن المنافع الاقتصادية وحدها؟ وهل تشمل هذه المنافع، بصورة او بأخرى، المجتمع الدولي بأسره؟ عندما نتحدث عن مشاريع بهذا الحجم وتنفذها كيانات عملاقة مثل الولاياتالمتحدة والاتحاد الاوربي لها من النفوذ الدولي ما يتجاوز بمراحل النفوذ الذي تمتعت به المانيا والنمسا عقب الحرب العالمية الاولى، فإن الفصل بين نتائجها الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية والثقافية يصبح نوعاً من السذاجة. وعندما يسعى الطرفان الاميركي والاوروبي إلى تأسيس شراكة اقتصادية اطلسية على خلفية المخاوف المتداولة في اوساط النخبة الاميركية بسبب الصعود الصيني، فإن من المؤكد أن هناك علاقة وطيدة بين الشراكة وهذه المخاوف. لقد اشار الكاتبان الاميركيان غونتز هوزر وفرانس كينيك في كتابهما «الصين: القوة الصاعدة» الى تفاقم هذه المخاوف خلال العقد الماضي بحيث تحولت الى ما شبهه البعض ب «الحمى الصينية» وبخاصة خلال حرب العراق ومشاعر القلق التي أثارتها. لقد تضافرت هذه الحرب مع الصعود الصيني السريع، والمفاجئ الاقتصادي والعسكري على تعميق الاعتقاد في صفوف النخبة السياسية الاميركية انه لا بد من مزيد من التضامن بين دول العالم الاطلسي، للوقوف في وجه هذه الاخطار. ولما وصل اوباما الى البيت الابيض انتشر التطلع الى هذا التضامن في اوروبا بمقدار ما كان موجوداً في الولاياتالمتحدة. وعبر عنه في الكثير من المواقف والسياسات، بخاصة تجاه احداث «الربيع العربي» إذ التقى الطرفان على سياسة تدخل مشتركة وإن تخللها احياناً شيء من الافتراق حول تفاصيل التدخل ووسائله. اعتاد الاميركيون والاوروبيون الهيمنة على النظام الاقتصادي العالمي، كما يقول اوري دادوش، المدير السابق للتجارة الدولية في البنك الدولي، عبر صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية. الا ان هذا النمط من الهيمنة لم يعد كافياً لمواجهة التحديات البازغة، لذلك كان الاتجاه الى الشراكة الاطلسية. ويتصور دادوش ان بعض الدول الآسيوية خصوصاً قد لا ترتاح الى الواقع الجديد، إلا انه يرجح ان تستسلم له في نهاية المطاف. وقد يتصور البعض ان دعوة اوباما لتكوين شراكة باسيفيكية موازية للشراكة الاطلسية، قد تسهل على هذه الدول تراجعها. ولكن من يدقق في قائمة الدول الرئيسة المدعوة (اليابان، الهند، فيتنام الخ...) الى ولوج هذه الشراكة، سيجد ان لكل منها مشكلة مع الصين، واستطراداً ان الغرض من الدعوة ليس ارضاء المدعوين بمقدار ما هو احتواء التحدي الصيني ومحاصرته بسلسلة من التحالفات المستخرجة من مستودعات مرحلة الحرب الباردة. هذه المعطيات والملاحظات تبرر المخاوف والتحفظات التي اثارها كثيرون، مثل وزيرتي التجارة الخارجية في فرنسا والبرازيل، على مشروع الشراكة الاطلسية باعتبار انه مشروع يرمي الى تجميد التنافس في التجارة العالمية اكثر منه الى تحفيزها، والى القضاء على المنافسين في السوق الدولية، وفي مقدمهم الصين، وليس الى حماية حقوقهم وحرياتهم والافادة منها. هذه المخاوف لا ترتكز على الفارق الكبير بين حجم الامكانات الاقتصادية التي تملكها دول الاطلسي من جهة، والدول الاخرى من جهة اخرى فحسب، بل هي تنبع أيضاً من ان دول الاطلسي مستعدة دوماً لاستخدام العنف والقوة، وليس المنظمات الدولية فحسب، من اجل فرض هيمنتها على المجتمع الدولي عبر كارتيلات وأنشلوسات اقتصادية وسياسية وعسكرية. لقد خبر العرب، عبر السنوات، مزايا التنافس الدولي، كما كان الامر في حرب السويس عام 1956. كما خبروا مساوئ غيابه، على غرار ما حدث في حرب العراق قبل عشر سنوات. واليوم بين كارتل اطلسي يهدف الى إطفاء التنافس الدولي، وصعود صيني يساعد على تحفيز هذا التنافس، فإن من الطبيعي ان تجد الدول العربية مصلحة لها في استمرار صعود الصين ودول الجنوب البازغة وفشل محاولات احتوائها والقضاء على نهضتها. * كاتب لبناني