«أما كان يمكن غير الذي كان؟»، جملة قدرية مقتبسة من مسرحية شعرية كتبها عدنان الصائغ مطلع التسعينات، استمر العراقيون يرددونها لسنوات. الجملة رصدت حينها ذلك الانكسار الكبير الذي صاحب النهاية المأسوية لحرب غزو الكويت. تساءل العراقيون، الذين شرعوا يبيعون أثاث منازلهم لتوفير قوت أبنائهم طوال حصار التسعينات: «أي أمِّ معارك عبثية علينا أن ندفع أثمانها؟». عندما اقتربت لحظة سبي بغداد في التاسع من نيسان (ابريل) 2003، ومعها اقتربت لحظة نهاية «معركة الحواسم»، كان التساؤل حياً، وكبيراً، وغائراً، فالقنابل الاميركية كانت حولت بغداد طوال 19 يوماً إلى مدينة مرعوبة وملتبسة، وتناقل الأهالي أنباء عن إمكان استخدام السلاح الكيماوي في الحرب. كانت التقارير في الإذاعات الأجنبية التي بدأت تنجو من التشويش، تردد بلا توقف «كيماوي... كيماوي»... فيسري الرعب، واليأس دفع العائلات إلى اتخاذ احترازات يائسة، مثل البحث عن ثقوب في الأبواب والشبابيك وإغلاقها بقطع القماش المستعملة، أو شراء الكمامات الطبية بكميات كبيرة، أو تحصين إحدى غرف المنزل على أمل أن غازات «الكيماوي» لن تتسرب إليها. الأحاديث عن معركة المطار تتوالى بدورها، وتلك التي تناقلتها أهالي مناطق جنوب بغداد عن اقتراب الأرتال الأميركية من حدود العاصمة. آخر نظرة لمحها السكان في عيون العساكر ورجال الأمن وقوات «فدائيو صدام» والبعثيين، لم تكن تحمل أي معنى، كانت بدورها تجتر الأسئلة نفسها التي رددها السكان «من أين؟» و «إلى أين؟» و «إلى متى؟». يوم التاسع من نيسان اكتشف الأهالي أنهم يعودون وبلادَهم إلى نقطة الانطلاق، وبلا بوصلة يواجهون صحراء تجيد إخفاء أسرارها. لحظة أعمال السلب والنهب، أطلت بدورها مع قدوم الوافدين الأجانب المدججين بالأسلحة والشكوك... لم تكن «لحظة غوغائية» كما صورها الإعلام لسنوات لاحقة، فالبسطاء والمعدمين والمحطمين الذين قدموا من القرى والبلدات البعيدة إلى بغداد لم يكونوا يعرفون أساساً بماذا يعودون، عاد أحدهم بكرسي قديم، وآخر قطع عشرات الكيلومترات حاملاً جهاز تكييف معطلاً، وثالث كان يحمل حنفية انتزعت من إحدى المؤسسات. خلف هذا المشهد الكاريكاتوري، كان نوعان من السارقين المحترفين يمارسون أعمالهم في الخفاء: مسؤولون كبار وضباط وموظفون سابقون يحملون ما خف وزنه وغلا ثمنه، وقادمون جدد سيصبحون بدورهم لاحقاً مسؤولين وضباطاً وموظفين يستولون على المتبقي. مصارف ووزارات وقصور ومعامل ودوائر ومزارع أصبحت في أيام أثراً بعد عين، وكانت الإشاعات تتردد «دولة مجاورة تدفع الأموال لإحراق المؤسسات» و «القوات الأميركية تكسر أبواب المصارف وتُدخل العصابات»، و «مسؤولون سابقون يحرقون أي أثر لهم»، و «قادمون مع القوات الأميركية يهدمون كل ما يمكن هدمه». لحظة نهب متحف بغداد كانت خارج الزمن، فجحافل المتربصين كانت وضعت أعينها على المتحف حتى قبل سقوط بغداد، وبعض العصابات الدولية أعدت العدة مبكراً لهذا الحدث الكبير. خلال أيام، كان المشي الوسيلة الوحيدة للتنقل بين أحياء بغداد وبين كرخها ورصافتها، تزاوَرَ العراقيون مشياً على الأقدام ليطمئن بعضهم على بعض والتهنئة بالنجاة. لكن النجاة كانت أكثر تعقيداً من قياسات 19 يوماً من الحرب، ومثلها من أعمال السلب والنهب، فالأيام المقبلة ستكون حافلة، وعلى العراقيين للمرة الأولى، وربما الأخيرة، إعادة اكتشاف هويتهم. سقط العراق في أزمة الهويات، وسقط العراقيون فرادى ومجتمعين فيها، كل الظروف كانت تجبرهم على النبش في بطاقاتهم المنسية بحثاً عن أصل لقب أو عشيرة أو مدينة قدم منها الأسلاف، أو حتى طريقة صلاة. اللحظات الجسيمة تتوالى، فمن حرب الفلوجة إلى حرب النجف، ومن إقرار الدستور برفض السنة العرب إلى الحرب الأهلية بتدمير مرقد الإمامين في سامراء، من قتل إلى قتل، ومن دم إلى دم. «القاعدة» و «المليشيات» والاستخبارات الإقليمية والدولية تطاحنت بقوة لسنوات، وأنجبت نمط حياة لا حياة فيه، ومع هذا تحسنت ظروف الأهالي الاقتصادية بفعل رفع العقوبات الدولية، قبل أن تختار مئات الآلاف منهم الهجرة، أو يتم اجبارهم عليها من منازلهم ومدنهم ... وحتى بلادهم. في حسابات 10 سنوات بعد سقوط بغداد، هناك الكثير من الأرقام المتداولة، قتلى على الهوية ومجهولو هوية، ضحايا مجازر دائمة، ضحايا أزمات دائمة، وهناك أيضاً مغامرون ولصوص وأفّاقون أمسكوا برقبة المدينة المنكوبة. صوت الشاعر الذي ردد قبل عقدين تساؤلاً حائراً، ما زال يُسمع في ساحات بغداد وأزقتها وزنازينها وأقبيتها وداخل مخادع سكانها: «أما كان يمكن غير الذي كان؟»، ويعود رجع صداه «أما.. كان يمكن!».