-1- كيف يستطيع الشاعر أن يكون مخلصاً للواقع وللشعر في آن ؟ هذا هو السؤال الذي خرجت به من قراءة الأعمال الشعرية الصادرة للشاعر محمد الحرز، ومنها عمله الشعري الأخير الذي قرأت نسخة منه قبل صدروه، فقد كان الشاعر في زيارة قصيرة إلى صنعاء في العام الماضي 2010، ومنحني هذا السبق الذي اعتز به، وهو ما دفعني إلى إعادة قراءة أعماله السابقة وفي طليعتها مجموعته الأولى «رجل يشبهني». ولست مبالغاً إذا ما قلت أن هذه المجموعة الشعرية من أجمل ما قرأته لشعراء قصيدة النثر في المملكة العربية السعودية، وأنني أعود إليها بين حين وآخر لكي أستعيد ثقتي بهذا النوع من الكتابة الشعرية التي لا تعتمد سوى على ذاتها بعد أن تخلصت من حمولات الوزن والقافية ومن اللغة الفضفاضة المترهلة. وأعود إلى السؤال الذي افتتحت به هذا الحديث وهو: كيف يستطيع الشاعر أن يكون مخلصاً للواقع وللشعر في آن، في محاولة للإجابة عنه، مع الاعتراف سلفاً بأن أية إجابة لن تكون سوى محض محاولة، فالسؤال أصعب من أن تستوعبه إجابة واحدة أو مجموعة من الإجابات، لأن العلاقة بين الواقع والإبداع شائكة وشديدة التعقيد لاسيما بعد أن سقطت نظرية الانعكاس في النقد الأدبي وباتت مع نظريات نقدية أخرى في حكم النسيان وحلت محلها نظريات حديثة متمردة تستجيب لذائقة العصر وتنأى بالإبداع عن المباشرة واجترار المعاني المستهلكة وتؤسس لكتابة تصنع باللغة منطوقها وذاكراتها وتشكيلها المفارق لما تم التعارف عليه من معايير الشعر السائد وجماليته، وتدعو إلى كتابة انقلابية بكل ما تعنيه الكلمة من إصرار على البحث عن مناخ خاص والدخول به في مسالك وانزياحات وصور لم تتوارد إلى ذهن شاعر من قبل، وفي تقديري أن مجموعة «رجل يشبهني» تشكل بفضائها الشاسع رداً عملياً لا يحتمل اللبس والمواربة على السؤال السابق: رجل يمسح أرصفة الشمس بظِل من يده اليمنى ويظل النهر المشدود بعتمة أيدي الليل يقبّل أحجاراً من يدِهِ اليسرى (ص5) اللغة هنا لا تقصي الدلالة بل تتماهى معها، وقد تزيحها جانباً عن طريق الشعر لتعود إليها بعد أن يكون الشعر قد مارس وجوده وتألقه، وهو ما لا تفعله نصوص كثيرة تدعي أنها تنتمي إلى قصيدة النثر، وهي ليست كذلك وهو مما جعل البعض لا يرى فيها شعراً يملأ الروح نشوة والجسد انفعالاً، كما فعل معنا النص القصير السابق، علماً بأن أغلب نصوص المجموعة في المستوى نفسه من الاقتصاد في العبارة واستقطاب للحواس، حيث لم يعد الشاعر جوّاب عصور وأمكنة يلتقط صورة من هنا وأخرى من هناك، وإنما صار أهم ما ينبغي الانتباه له هو التحليق في أجواء نفسه والبحث في جسده هو، وأجساد الأشياء من حوله. ولم يكن النص السابق سوى رحلة تمارسها يداه اليمنى واليسرى، وكان لابد من استدعاء (يَدَيْ الليل) لتكتمل اللوحة التي تجمع بين النص الحاضر والخطاب المضمر أو الغائب. وهو ما قد يتجلى بوضوح أكبر في هذا المقطع من نص آخر: في غفلة من كآبته.. أحلامه اندلقت قرب السرير مثل غيمة انحدرت من جبل يقف متكئاً على حافة شرفاتهم المتعبة. (ص19) -2- أعترف أنني أحببت هذه المجموعة الشعرية لمحمد الحرز، مع أنها الأولى في مساره الإبداعي، وشعرت نحوها بشغف خاص، بوصفها شعراً لا يكشف عن مضامين متوقعة أو يبوح بوقائع يكتنفها الغموض، ولأنها - وهي تحملك بعيداً عن كل ما هو عادي واقعي- تجعلك مغموراً بواقع قد يكون تذكارياً لم تره من قبل ولكنك تحسه وتشعر نحوه بجاذبية خاصة. يضاف إلى ذلك أن لكل نص من نصوص هذه المجموعة شخصيته وملامحه الأسلوبية التي تجعله مستقلاً بذاته وبمعجمه الخاص. واللافت للانتباه أن ذلك قد حدث منذ البدايات الأولى للشاعر ومنذ اختياره آليات النهج التغييري الذي تمثله الكتابة الشعرية الأجد كمصدر للرؤية والتشكل والبناء، وهو ما يؤكد تلقائية الشعر وانبثاقه من منطقة الدهشة الجامحة، وذلك ما تؤكده نصوص مجموعتيه اللتين سبقتا مجموعته الأخيرة، وهما (أخف من الريش أعمق من الألم) و(أسمال لا تتذكر دم الفريسة). وهنا نص من مجموعته الأولى: لا أذكر تماماً متى سقط ظلي في العتمة!!؟ كقطرة ماءٍ لا تتشبث إلاَّ بعري دهشتها.. على حافة بئر غايرة.. في الروح. (ص37) ليس هماً ذاتياً ما يؤرق هذا الشاعر وتستوعبه بحرارة تجربته المدهشة. وإذا كان قد نجح باقتدار في أن يواري الرؤية العامة في رؤيته الذاتية فإنه في أغلب النصوص إن لم يكن فيها جميعاً يظل مسكوناً برؤية إنسانية واقعية تخرج من دائرة الذات إلى الفضاء الإنساني بكل ملامحه الواقعية وتصوراته التي لا تستعصي على الإمساك: دائماً أفعل هكذا: أجلس إلى الطاولة قرب النافذة التي تطل على الشارع، أفرد ذراعيّ عن آخرهما، وكأنني أسترجع دماً يفلت من جسدي. (ص74) الشارع هو الواقع، والجسد هو الذات، والعلاقة التي تبدو غائمة بينهما تكون دائماً في متناول القارئ المتمرس ذلك الذي لا يريد للشعر أن يفصح مباشرة عن أحواله أو أن ينقل إليه الصور المألوفة كما هي ولا يترك له مجالاً لاستشفاف التفاصيل والبحث عما بين السطور. وإذا لم يتعود القارئ على الغوص في عالم الشاعر وكشف خصوصيته فإنه لن يجد نفسه في مثل هذا الشعر أو يكتشف الدوافع والانفعالات الكامنة وراء القصيدة: العابرون إلى الموت على أكتافهم ارتطم الليل كصخرة فتحت قلبها للريح العتبات التي خلفوها وراءهم انحرفت قليلاً عن الأبواب ذاتها كما لو أن يداً ملقاة على الرف كنست غبار ظلالهم، حيث النهار متكدّسٌ في صندوق خشبي هرم. (ص22)