ترسخ زيارة وزير الخارجية الأميركية جون كيري الى المنطقة اليوم نهجاً جديداً في ولاية الرئيس باراك أوباما الثانية للتعاطي مع الملفات الاقليمية. ففي عملية السلام يحذو كيري نهجاً معاكساً للمبعوث السابق جورج ميتشل في محاولته إطلاق المفاوضات المباشرة، واقليمياً يحاول اعادة رص التحالفات التقليدية وتعميق شبكة التعاون الاقليمي خصوصاً بين أنقرة وتل أبيب في شأن ملفي ايران وسورية. ويبدأ كيري جولته اليوم من تركيا قبل أن يتوجه الى اسرائيل والأراضي الفلسطينية، في زيارة تحيط بها الملامح التقليدية للسياسة الأميركية، اذ تُعتبر الزيارة الثالثة للوزير في أقل من شهرين الى المنطقة، وتعكس الأهمية التي يوليها ل «الديبلوماسية المكوكية» التي اعتمدها سلفه هنري كيسنجر، ووزيرة الخارجية السابقة كوندوليزا رايس. وزارت رايس الأراضي المقدسة 24 مرة خلال توليها وزارة الخارجية (2004-2008) سعياً لابرام اتفاق سلام، من دون أن تحرز أي نجاح. غير أن كيري، وخلافاً لرايس يستفيد من شبكة علاقات شخصية مع زعماء المنطقة، حرص على تنميتها خلال 27 عاماً في لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ وبانتظار توليه هذا المنصب الذي سعى اليه لفترة طويلة. وتقول مصادر موثوق فيها ل «الحياة»، إن محادثات كيري الأولى مع رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان في آذار (مارس) الماضي كان لها دور حيوي في إرساء المصالحة بينه وبين نظيره الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، التي تمت خلال زيارة أوباما لإسرائيل وبعد اعتذار رسمي من تل أبيب. وسيسعى كيري في لقاءاته في إسطنبول إلى البناء على هذه المصالحة وإعادة إطلاق التعاون الإسرائيلي-التركي في مجالي الاستخبارات والأمن الإقليمي. إذ تحتم الظروف الإقليمية، بنظر واشنطن، استئناف هذه العلاقة بين أنقرة وتل أبيب، خصوصاً للتعامل مع تهديدات متزايدة من الوضع في سورية وأيضاً مع الملف النووي الإيراني. وسيبحث كيري أيضاً على حدة الأزمة السورية، وما يعرفه ب «استراتجية زيادة الضغوط الميدانية لتغيير حسابات النظام». وينسق الأميركيون بشكل وثيق وشبه يومي مع الأتراك في الملف السوري، ومن المتوقع أن يستمر التصعيد عبر دعم المعارضة، والذي سيتوجه بوصول شحنات مساعدات غير مسلحة من واشنطن الى قيادة «الجيش الحر» الأسبوع المقبل. وكان أوباما رفض اقتراحات من مستشاريه في مجلس الأمن القومي وفي الخارجية لتقديم أسلحة نوعية للمعارضة، مع وعد باستمرار المراجعة الأميركية في هذا الملف. وفي عملية السلام، يبدو أن كيري يقود «انقلاباً ناعماً» على استراتيجية ميتشل القديمة، ويعتمد خطة معاكسة لرؤية المبعوث السابق، إذ فيما كانت شروط وقف الاستيطان والقيام بخطوات تطبيعية أساسية في مهمة ميتشل، وكشرط لبدء المفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين، لم يضع كيري علناً أي شروط مسبقة، لا بل عاد إلى الاستراتيجية التقليدية التي اعتمدتها رايس أيضاً عبر خطوات «بناء الثقة» تمهيداً للمفاوضات. وفي هذا الإطار تقع محاولات إقناع إسرائيل بالإفراج عن أسرى فلسطينيين ما قبل حقبة أوسلو، وتقديم ضمانات أمنية لإسرائيل في منطقة وادي الأردن. كما يأتي دعم السلطة الفلسطينية وتوثيق التعاون مع الأردن، كوسيط إقليمي في عملية السلام، في صلب جهود كيري. ويضع الوزير الأميركي ثقلاً شخصياً لتحريك عملية السلام، كونها من الملفات التي قد تعطيه شرعية تاريخية في حال الوصول إلى اتفاق، وتعني أيضاً حفز الاستقرار الإقليمي وشبكة التعاون بين حلفاء الولاياتالمتحدة حتى لو لاقت جهوده مصير جهود رايس ووزراء الخارجية الذين تعاقبوا منذ اتفاق أوسلو.