ينتقل المعرض الاستعادي للفنان السوريالي النموذجي سلفادور دالي من قاعات متحف الفن المعاصر لمركز بومبيدو الثقافي- باريس، مباشرة إلى مدريد. يعانق المعرض أكثر من مئة وعشرين لوحة إضافة إلى الرسوم ومختارات من محفوراته الطباعية، بخاصة أفلامه الثلاثة، تربض كلها على سبعة أقسام مستقلة تتابع رحلته الإبداعية والمعاشة ما بين ولادته في كتالونيا (إسبانيا) عام 1904 ووفاته في شيكاغو (الولاياتالمتحدة) عام 1989. هو ما يكشف ترحاله الدائم بعد سيطرة الفاشية العسكرية على مدينته برشلونة. نجده متراوح الإقامة بين باريس وروما ولندن قبل استقراره في شيكاغو ونيويورك ابتداء من محنة الحرب العالمية الثانية. معرض جديد آخر يضاف إلى العشرات. وما أكثر معارضه وإثاراته الشطحية التي لا تنضب. التقينا مثلاً معرضه (البانورامي) في هذا الموقع قبل ثلاثة عقود، أما المعرض الراهن فأتى بالتعاون مع مركز رينا صوفيا في مدريد، وسينقل إليه المعرض مباشرة، بحيث يتوازى مع آخر في بروكسيل (بلجيكا). رُتّب المعرض «سينوغرافياً» ضمن تسلسل وقائعي (تاريخي)، كي يعكس نقاط التحول في مسيرته النخبوية، في مسار وسياق جعله أحد أشهر فناني القرن العشرين، إن لم يحتكر هذه النجومية النرجسية برمزه الحلمي الاستفزازي، أقصد بشاربيه النحيلين المعقوفين باتجاه عينيه الجاحظتين أبداً، معتمراً قبعته السوداء الأرستقراطية متأبطاً عصاه الملوية. ترسخت غرائبيته واستعراضيته منذ شراكته في تأسيس المجموعة أو الحركة السوريالية، هي التي دعا إلى تشكيلها الشاعر الفرنسي اليساري أندريه بروتون منذ عام 1929. كان دالي مستعداً لهذا الالتحاق وهو الذي يستلهم أسلوبه (منذ 1927) من الميتافيزيقي شيريكو والسوريالي أندريه ماسون. يكشف المعرض نشاطه السابق لهذه الحركة عندما كان «تكعيبياً» يتعقّب تجارب بيكاسو وبراك التحليليّة، مثله مثل توأمه خوان ميرو، جمعتهم برشلونة وصالونها الرسمي عام 1920 وبالنتيجة لم تلتزم شخصيته المزاجية - العبثية بسياسة المجموعة، وليس أدل على سخريته من فكر أندريه بروتون السياسي من لوحته «صورة لينين 6 مرات على البيانو» (منجزة عام 1931). وكان هذا التناقض فجر استقلاله منذ البداية من خلال تصريحاته الجارحة في وسائط الإعلام العامة واستخفافه بزملاء، كما كان ازدواج شخصيته وتضخم «أناه» صادماً منذ البداية، مصوراً في لوحاته أسطورة «نرسيس» اليونانية، هي التي تروي كيف غرق هذا في إعجابه بجمال وجهه المنعكس في ماء النهر، ومات ضحية خيلاء. يصور دالي في هذا المقام نفسه كذكر وأنثى (تحولات نرجسية عام 1937)، بل وصل به الأمر عام 1972 إلى أن صوّر وجهه في المرآة كخليط هجين من ماوتسي تونع ومارلين مونرو. إذا كان في تجربته العاطفية متعلقاً بزوجته، وخلدها في أبرز لوحاته، فقد كانت أغلب لوحاته ملتبسة من الناحية الجنسية بسبب توخيه الاستفزاز الحلمي، مع استثمار أفكار عالم النفس فرويد في كتابه عن التحليل النفسي، استعار منه آلية التداعي الصوري، وموضوعات العقد والكبت (اللبيدو) مثل «عقدة أوديب»، ليطل منها على الأساطير اليونانية بخاصة أفروديت، صوّرها مثقبة بالأدراج، بحثاً عما يخفيه داخلها، وبحثه عن الصور الحلمية جعل أسلوبه واقعياً توثيقياً يستثمر أغلبه الأصول الفوتوغرافية، هو ما دفعه إلى تجارب الفيديو والسينما. تعرض قاعات المتحف أفلامه الثلاثة: «الكلب الأندلسي» (عام 1929)، «والعصر الذهبي» (عام 1930) و «الفوضى والخلق» (عام 1960) ظل ممنوعاً من العرض حتى عام 1981. أعتبر مبشراً بتيار «البرفورمانس» ما بعد الحداثي وكذلك تيار «الإنشاءات» وذلك بخروجه في أكثر من منحوتة من سطح اللوحة واستعارة العناصر الجاهزة لوضعها في علاقة حلمية ملّغزة مثل موضوع جهاز التلفون الذي استبدل سماعته بحيوان القريدس البحري. رغم انتقاد أندريه بروتون لأسلوبه الواقعي القريب من سيميولوجية ورمزية المادة الأدبية (بعكس ماكس إرنست) فإن المعرض رغم ذلك يعانق لوحات لا تنسى لأصالتها، مثل لوحة «إصرار الذاكرة» (منجزة عام 1931)، بساعاته الرخوة، أو لوحة «الحرب الأهلية» (منجزة عام 1936) التي تمثل أشلاء أجساد مع إحالة إلى الحرب الإسبانية الداخلية، أو لوحة «يورانيوم» التي تستعيد مأساة هيروشيما. لعل دالي صرخة مجنونة في عالم أشد جنوناً.