يحاول الروائي المغربي شعيب حليفي نفضَ غبار المعارك القديمة التي شهدتها مناطق مغربية في روايته «رائحة الجنة»، (دارالنايا، دمشق)، ويركز على منطقة الشاوية، ومكارطو، مازجاً بين التاريخ والخيال، وساعياً الى إضفاء جوانب فانتازية على الأحداث المروية والمستذكَرة. وهكذا يغيب ما يفترض أن يكون لمصلحة ما يمكن أن يقع، يذكر كيف أنه كان يتم تدريب الصغار على دفن العصافير في تحضير لدفن الأموات الكثر في المراحل التالية، في إشارة إلى استمرار الحروب. يقسم حليفي روايته إلى خمسة فصول: غبار المعارك القديمة، شامة.. ماذا أقول للزمن؟ ذات ليل، حطب الجنة المهجورة، عبدية... كيف تهدربت أشواقي القديمة؟ ويلجأ فيها إلى الأسطورة والخيال والتاريخ ليرسم واقعه الروائي، ويروي حكاياته الغرائبية، مستعيناً بتطعيم السياقات والحوارات بأراجيز شعبية محلية، وينطلق من النقطة المركزية التي شهدت معارك بسيطة بين أهلها وجيرانها، لينتقل إلى مشاهد الحرب العالمية وما رافقها من عنف ودمار. معارك مستعرة يقتصر بعض شخصيات الرواية على فصول بعينها وبعضها الآخر ذو طبيعة امتدادية. من الشخصيات: عبد السلام، عبو الريح، سي عمر وغيرهم من رجال المِحن ووجهاء الجدب والخراب. ويحضر منصور وبنطاهر وعياد العشي ثلاثي التصدي للعدوان القاهر، ثم محمد الشيدي والحطاب، وذلك وسط اندفاع القوى المتسلطة المتمثلة بالمخزن مع قوات الاحتلال، وتواطؤ من قبل بعض الأهالي ذوي النفوس الضعيفة، الذين يقدمون ولاءهم للقادمين. تنشط الدعوات لتحدي تلك الدسائس، تكون ثورة الأعشاش، والعمليات الانتقائية التي تؤدي إلى مزيد من الدمار، ثم تكون الخدع والمكائد للهيمنة على البلدة ونسفها بمَن فيها. المعارك القديمة هي بمثابة بوابة للدخول إلى القرن العشرين وما شهده من حروب وصراعات، وكأن كل المعارك السابقة والمناوشات المناطقية المحدودة لم تكن إلا تمهيداً للحربين العالميتين. هكذا تتحقق تنبؤات الفقيه، وتتعرض المدينة لإنزال القوات الفرنسية وتدور رحى معارك طاحنة، تراق فيها دماء كثيرة، ويضطر ثوار الشاوية إلى الانكفاء والاحتفاظ بما تبقى من طاقاتهم للمعارك القادمة، باعتبار أن الحرب ستطول وستتجدد. يدرك الشيدي والحطاب وغيرهما أن قدرهم الحياة وسط الحروب وكل مولود خارج الحرب محكوم عليه بالضعف أو الموت. ينوسون بين اليأس والأمل، وذلك بحسب فوزهم أو هزيمتهم في المعارك. ويدركون أن الحروب تستمر، والحرب مدرسة للحياة تقوم النفوس وتنفض الغبار عن ركام الأحقاد والأخطاء، ولا يمكن لزمن الشاوية أن يستمر دون حروب تطهر أدرانه. أساطير وأوهام يختار محمد الشيدي ابن شامة، الانضمام إلى القوات الفرنسية للمحاربة ضد الألمان، وذلك بدافع الهروب إلى المجهول، وإمكان تحقيق بعض غاياته في إبعاد الفرنسيين عن بلده أو المساهمة في تحرير بلده لاحقاً بعد اكتساب الخبرة. يذكر بولادته الأسطورية لأمه شامة، وكيف أن أمه التي كانت الناجية الوحيدة من المجزرة التي ارتكبت في البلدة، كانت على وشك القتل حين نطقت اللعبة التي كانت قد لفتها بقماط كي توهم زوجها العقيم بأنها أنجبت له طفلاً، لأنه كان بصدد قتلها والانتحار من بعدها. شامة مؤسطرة كمدينتها، تنقل إلى ابنها الشيدي أسطورتها وتفردها، بحيث أن الشيدي يظل محمياً كأنه مخفور من قبل قوى خفية، يُقتل من حوله الجنود في المعارك والمواقع لكنه يظل حياً يرزق. وفي ضواحي باريس يقوم بجولات صيد الجنود الألمان والفرنسيين المتحالفين معهم، يتعرف إلى حياة باريس، يعشق فتاة إغريقية، يكتمل هوسه الملحمي ويحاول إكمال أسطورته بالاقتران بتلك الفتاة التي يظن أنها من سلالة الآلهة الإغريقية. ويكرر لنفسه ولها أنه ذراع الإغريق التي سقطت في الشاوية، وجاء ليحارب الأوهام التي تركها جده. يؤكد الشيدي أن الأرض قضيتهم وأنها لن تحررها الخطب والكلام المنفوخ، بل لا بد من العمل لتحريرها. يرمز بذلك إلى بذور الوعي المقاوم وتشكل حلقات الثوار ابتداء من أقصى المدن والقرى لتهيئ للمراحل التالية. ويشير كذلك إلى عبثية الحروب المستعرة، ومن ذلك تسمية الكتيبة التي يحارب فيها مع صديقه الحطاب باسم «دون كيشوت الأعمى»، وتسخيف الأهداف التي يجد نفسه مقاتلاً في سبيلها في الحرب العالمية. يشعر بداخله انه يتهدم، يحس بتيهه وسط التذكر والنسيان، يرى أن العبث هو الذاكرة الوحيدة أمامه لتصريف ضغط الزمن في الشاوية، فلم يعد يعبأ لأي عقاب يطاوله جراء عراك عابر لن يشفي غليل بحثه الداخلي عن المحارب المفقود الذي تاه في لحظة الاستراحة، المحارب الذي يجسد ضياعه المزمن وسط عبثية المعارك. يعتقد الراوي أن رصيد المحاربين من المغامرة لن ينفد، والحرب تنتقل بمعسكراتها من مكان الى آخر. وأن هناك حروباً هامشية تتخلل الحرب الكبرى، كحروب الشيدي والحطاب الليلية في باريس على هامش قتالهما، ما يستنزفهما، فيشعر الشيدي بنفسه أنه من دون قلب، وأنه يرغب في القبض على وجه المفارقة بين بشاعة الموت في الشوارع والمواخير وتحت الأرض. يرتب مشهداً دقيقاً يليق بمحارب لا يعرف لماذا ذهب إلى الحرب، يلوذ ببيت الإغريقية التي يسميها ريمة، ويختلق قصة للمكوث هناك، ثم الزواج بها. يرى الشيدي بعد أشهر قليلة أن تلك الهدنة المسترقة من ضجيج الحرب تنعش ذاكرته وتريحه. يسترجع حكمة أجداده في الاحتفاظ ببلده مهما كلف الثمن، يناجي الشاوية بحرقة مؤكداً لها أنه لو خُير بينها وبين أراضٍ من ذهب فإنه لن يقبل لها بديلاً، وأنه سيختارها ويختار مآثرها التي دونت بدم قلبه على باب السماء برائحة الجنة. ويصف الشاوية التي ترمز الى قلب العالم بأنها إما جحيم مأهول أو جنة مهجورة. يحمل حليفي أبطال روايته تاريخاً من النكبات، بحيث أن استمرارالمعارك وتعاقب الفصول والسنوات، وطول الحرب التي لا تشيخ، إنما تتجدد بدماء موتاها ورعب المؤهلين للموت، يؤدي بهم إلى تصور أن الحياة تستعيرهم من الموت لفترة ثم ترميهم. وأن الماضي هو الزمن الحقيقي في حين أن الحاضر هو اللازمن. وأن الموت أصل والحياة فرع، وأن الحرب تخرب الأرواح وتلقي بها في أنفاق الضياع. وتكون الخاتمة التي تطلق الأحلام في ميدان الحرب اللامنتهية لتضيع في زحام القتلى والخراب، مع بارقة أمل يتمنى أن تتسنى لها الفرصة عساها تتحقق ذات مصادفة.