من رامبرندت الى فرمير، العصر الذهبي الهولندي" عنوان المعرض الذي يقام حالياً في متحف "البيناكوتاك" في باريس وهو يعرّف من خلال مجموعة كبيرة من اللوحات والمحفورات والوثائق بالنتاج الفني الهولندي خلال القرن التاسع عشر الذي يعدّ العصر الذهبي بالنسبة إلى الفن الهولندي. ومن المعروف أنّ هولندا حققت في القرن السابع عشر مستوى عالياً من التقدم العسكري والعلمي والثقافي والأدبي. وعكست الفنون الازدهار الذي تجسد في أعمال مجموعة من كبار المبدعين الهولنديين، وقد ترك هؤلاء بصمات واضحة على مسيرة الإبداع الفني ليس فقط في وطنهم بل أيضاً في القارة الأوروبية بأكملها. ففي الوقت الذي كانت فيه غالبية الفنانين الأوروبيين ترسم أعمالاً مخصصة للكنائس وقصور الملوك والطبقة الحاكمة، وتستوحي مواضيع لوحاتها من الأساطير والقصص الدينية، اختار الفنانون الهولنديون أن يرسموا مشاهد من الحياة اليومية وخلّدوا في لوحاتهم شخصيات كالأطباء والتجّار وسيدات المنازل ومطرّزات أقمشة الدانتيل. ويعتبر الفنان رامبرندت أشهر أولئك الفنانين وأكثرهم تمكّناً من ابتكار رؤية فنية جديدة لم تعرفها الفنون التشكيلية من قبل وقد تجسدت في طريقة رسومه للأشخاص حيث يسيطر التركيز على تعابيرهم الإنسانية العميقة. أما بالنسبة إلى التقنيات التي اعتمد عليها أيضاً فكانت رائدة في مجالات عدة وبالأخص في أسلوب تعاطيه مع الضوء والظل. ونتعرّف في المعرض على نماذج هامة من لوحات رامبرندت ومنها لوحات البورتريه كالأعمال التي رسم فيها ابنه وزوجته. إلى ذلك، هناك اللوحات التي رسم فيها نفسه وهي من أشهر أعماله بسبب متانتها وتعبيرها عن المراحل النفسية التي عاشها الفنان منذ شبابه وحتى وفاته. هكذا نشاهد الفنان في محترفه وهو يرسم أو يقرأ أو حتى وهو يتأمل في أحوال هذه الدنيا. في موازاة أعمال رامبرندت، نتعرف في المعرض على أعمال فنانين آخرين ومنهم فرانز هالز الذي اشتهر أيضاً برسوم البورتريه التي أظهر فيها براعة كبيرة وكان لها تأثير على عدد من كبار فناني القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ومنهم الفرنسيون مانيه ومونيه وكوربيه... ويوجد في مدينة هارلم الهولندية متحف يحمل اسم الفنان فرانز هالز ويضمّ أعمالا للفنان ولمبدعين آخرين يختصرون بأعمالهم الملامح الأساسية للفنّ الهولندي في القرن التاسع عشر ومنهم الفنان بيتر دو هوش الذي يحضر في معرض باريس وكان عُرف بلوحاته التي صوّر فيها مشاهد داخل البيوت، والفنان أوستاد الذي ركّز على الحياة الريفية وصاغها أحياناً بأسلوب ساخر. لا بدّ من الإشارة أخيراً إلى أعمال الفنان فيرمير الذي يعدّ أشهر فنان هولندي في القرن السابع عشر بعد رامبرندت. وعلى الرغم من عمره القصير فإنّ اللوحات التي تركها وتمثّل، في معظمها، بورتريهات أو مشاهد من داخل البيوت، تعدّ محطات أساسية في مسيرة الفن الأوروبي كما لوحة "صانعة الحليب" ولوحة "الفتاة صاحبة اللؤلؤة"... ولقد أعيد اكتشاف هذا الفنان في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ولاقت أعماله منذ ذلك الوقت شهرة كبيرة حتى أنّ الأديب الفرنسي مرسيل بروست كان يعتبره من أبرز الفنانين في تاريخ الفن الأوروبي وقد جاء على ذكره في كتابه الشهير "البحث عن الزمن الضائع". سيمون فتّال في الموعد السرّي بين البدائيّة والحداثة يقام في غاليري "أوروب" في باريس معرض جديد للفنانتين سيمون فتّال وإيتيل عدنان يتضمن مجموعة من أعمالهما الجديدة. كما تعرض سيمون فتّال عدداً من أعمالها النحتية المنفّذة بالطين، وقد قدمّتها الناقدة الفرنسية والباحثة في الفنون أنيك شانتريل لولوك في كلمة ننقلها، هنا، إلى العربية: تنحت سيمون فتّال الطين. الوجه هو الموضوع الأساسي لنتاجها الفنّي. "لديّ فكرة لا يمكن أن أقولها مرّة واحدة وأخيرة". الطين هو الأرض، المادّة التي منها تكوّنَ البشر. تشوي الخزف والطين لتشكيلهما وتضع "العصب" اللازم من أجل صلابة القطع الكبيرة. الحركة ثابتة لا تتغيّر. الحركة اللازمة المطلوبة من أجل النحت، تلك التي تصوغ وتبني فيما هي تأخذ وتنتزع. تبقى في حالة من الانبهار أمام القوّة الفاعلة لنار الحطب التي تحيي المادة وتكسبها شحنة إنسانية. إنّها كثافة التحوّلات. صَممُ الأجساد المحترقة، المكسوَّة بغبار صلصاليّ داكن، وبخزف من ظلال وأنساق لونيّة حارّة. شخوص تشكّلت من خلال ملامسة قويّة. شخوص عارية، وحيدة، وأحياناً مزدوجة. مسطّحة، بدائيّة الملامح، وبدون بحث جمالي أو نزوع نحو الواقعيّة. يطالعنا رأس مخطَّط، أو رأسان كظلَّين للتأكيد على المظهر المتحرّك. تطالعنا أحياناً الأذرع، أو السيقان المتطاولة وهي تسير في حال من انعدام التوازن الخفيف على خلفيّة مأسوية حادة. ينتصب الرجال والنساء كأعمدة هيكل، لكنّها أعمدة مجوَّفة خاوية. إنهم الشهود والمحاربون الواقفون كالأشجار. تحيي سيمون فتّال ما تمّ الإعلان عن موته. هكذا تحضر ذات الهمّة، حارسة الحدود في مرحلة الإمبراطورية البيزنطية، المؤتمَنة على واحدة من أساطير "ألف ليلة وليلة". الهمّة تعني العزم والإرادة، قوّة الروح الكامنة في الذات، وهي نقطة مركزية في أعمال سيمون فتّال. يدان مسكونتان بالآثار السومرية والأشورية، هكذا تتبدّى يداها - في ما يشبه اللعِب الغامض- حين تلامس الطين. يصبح أسياد المعنى في منحوتاتها كلّ من جلجامش وعشتار، ومعهما عوليس والأساطير الإغريقية. نماذج قديمة هي تلك الشخوص، وبدون هويّة فرديّة. كان سبق للنحات بورديل أن قال في هذا الصدد: "القديم هو عدوّ ما يولَد كذِباً والذي يغيِّر الرخام ويجعله جثثاً. القديم ليس ساذجاً ولا خشناً غير مصقول. إنه الأكثر نفاذاً والأكثر انسجاماً مع البُعد الشمولي والكوني". تعمل سيمون فتّال على إخراج شخصياتها الأسطورية من السكون وتدفعهم في اتجاه الحركة، فتلتقي عندئذ العصور القديمة بالزمن المعاصر كما لو أنّ الأموات يتصارعون من جديد، هنا والآن. الوقت خطّ ساكن لا يتحرّك. لكن، وبحسب الناقد الفنّي كزوريغيرا، "عندما يتزاوج الماضي والحاضر من خلال العودة إلى الجذور، يرتجّ الواقع ويسيل ضمن جدليّة لا تنفكّ تحاصر وَعْيَنا". بعيداً عن دمشق، فردوس طفولتها المفقود، وبعيداً عن بيروت بسبب الحرب الأهلية، لا تنفكّ الفنانة تعود إلى واقع لا تقيم فيه، لكنها، في الوقت نفسه، تقيم فيه دائماً. في المنزل المهجور، امرأة من طين مشوي تجلس على رخام أبيض. ما لا يفنى هو، هنا، في مواجهة القابل للفناء. الجسد المتماسك والقويّ مفرَّغ من داخل. وحين نلمح شكلاً مُحَدَّباً للجسد، تعمد الفنانة إلى الشكل المقعَّر. في هذا الموقع بالذات، ترتبط سيمون فتّال بقرابة شكلانيّة مع هنري مور حيث يمكن إدراك التشكيل من خلال طابعه العام وطريقة قَولَبَته. في جوف الانتظار، أي في العلاقة المقعَّرة، تُعيد الحياة إلى أشكال تبدو وكأنّها مفرّغة من الحياة. تؤكّد سيمون فتّال على نفسها بصفتها نحّاتة لسيرة الإنسان وأسطورته. تستجيب لعطشنا لبدائيّة حديثة، ولحاجتنا إلى إعادة ابتكار الكائن الإنساني من جديد. يعتبر الفيلسوف جيورجيو أغامبين أنّ "ثمة موعداً سرّياً بين البدائيّة والحداثة، لأنّ سرّ ما هو حديث كامن في الماضي السحيق المتعلِّق بعصور ما قبل التاريخ. الإبداع الطليعي يبحث عن الفطريّ والبدائيّ، والمَعْبَر إلى الحاضر يتّخذ، بالضرورة، شكلاً أثرياً".