في الظاهر: الحدث جد بسيط، جد عادي، ولربما جد مبتذل. ثمة مقالة هجائية، ورد فعل منذر ومتوعد، واحتجاج على التهديد والوعيد. المقال الهجائي بقلم الكاتب والشاعر العراقي احمد عبد الحسين (نشر في الجريدة شبه الرسمية: الصباح)، وهو مثقف متميز من جيل الحرب، والحصار. أما رد الفعل المثقل بالتهديد والوعيد، والمشفوع بالاهانات، فقد جاء من عضو معمم في البرلمان العراقي، هو الشيخ جلال الصغير. وأما الاحتجاج فجاء من جمهرة واسعة من الكتاب والاعلاميين الذين اطلقوا تظاهرة رمزية (كانت حاشدة مع ذلك) في شارع المتنبي، موئل الكتبيين، وشارع الكتاب بلا منازع، اعترضوا فيها على قوانين رقابة يراد فرضها، كما تضامنوا بها مع الكاتب المهدد. وهذه الدراما ليست «زوبعة في فنجان» ماياكوفسكي، بل هي تراجيديا تمس عالم الثقافة والمعلومات بأسره، وتتصل بالتالي بجوهر ومعنى كل المعاناة على درب الجلجلة العراقي منذ صعود البعث، وحتى اللحظة، بل الآلام القصوى لمن ارتادوا المسالك الوعرة منذ 2003. لدرب الآلام هذا معنى الحرية، المشاركة، القانون، وهي نقائض الاستبداد، الاحتكار، التعسف. والتفاعلات بين الكاتب والملاّ والمثقفين ليست بسيطة. فهذه أول مرة يتحول التحدي الفردي لمثقف، الى فعل جماعي لمثقفين، مثلما انها أول مرة يرد فيها المثقفون على ملا ودولة معا. لعلها يقظة الفتنة النائمة. اعلم علم اليقين ان مقالة البطانيات، بما فيها من هجاء رصين لسوءات عالم السياسة، ليست الأولى، ولن تكون الأخيرة. والتهديد بقتل الكاتب او تهديد المؤسسة ليس الأول، ولن يكون الاخير. فالإعلام والمثقفون نجوا، بشق الأنفس، من مخالب الميليشيات، ومفخخات الأصوليين. مثلما انفكوا عن هيمنة الحزب الواحد، لكن الخطر لا يزال ماثلاً. تهديدات واعتراضات السياسيين على الاعلام والكتاب لم تنته، لكنها باتت تنزع، أكثر فأكثر، الى اللجوء للقضاء. فما عاد الكاتب اليوم يتردد في البوح والافصاح، وما عاد هياباً من ارتياد المسالك الوعرة، وما عاد مضطراً الى الفرار للمنافي كي يقول كلمته. بات المثقف يتحرك لأجل الثقافة، التي لا معنى لها من دون حرية القول، حرية الفكر، حرية المعرفة، حرية العقل، الجوهر الاسمي للانسان. وما عادت مطالب العقل هذه ثانوية، نتشاغل عنها بأمور «جسام» تخص «الأمة» و «النضال»، و «التحرير»، وهي مقولات زورت تزويراً على امتداد القرن الماضي، حتى صار العقل نقيض الأمة، وحرية الفكر عدو التحرير، والبوح بالحقيقة هادم المجتمع. لعل ذلك بداية الخلاص من قيود الابتزاز الدولتي المرير، الذي أنهك الأمة، واستباح ثقافتها ومثقفيها، باسم الأمة، والثورة، ومقارعة اعداء برانيين، لا يكلفنا هجاؤهم شيئاً، بل هو مجلبة لنياشين تنوء بها الصدور الفارغة. واليوم يراد لهذا ان يعود بذرائع أو من دونها. وتهب رياح الردة من ملالي مستائين، وموظفين مفسدين، وسياسيين محرجين، فلا الملا يحب كشف سوءاته، ولا المختلس النهاب يرتضي تسليط الأضواء عليه، ولا السياسي الغارق في خيلاء السلطة، يحتمل من يصارحه. الكل هنا يرتعد من غياب السيطرة على المعلومات، ويتحرق للعودة الى الماضي. والمفارقة ان كثرة من السياسيين في القمة اليوم لا يكفون عن رفع بعبع «عودة البعث»، وهم يبذلون كل يوم ما بوسعهم ل «عودة» الممارسات البعثية، بكل صورها المقيتة. ولعل سلوك وأقوال الشيخ جلال الصغير، واحد من امثلة كثيرة. راعني في شتائمه قدم اللغة وفجاجتها. فهو يصف غريمه ب «الموتور»، وهي شتيمة سياسية متداولة منذ الخمسينات، وكادت ان تختفي، لولا ان أعادها من زوايا النسيان. ويمكن تجاوز هذه المفردة، لكن ليس بالوسع اغفال العبارة الأخرى المنقولة عنه التي يصف فيها كاتب مقالة البطانيات بأنه «لا أصل له ولا فصل». هذه شتيمة عشائرية مقذعة. في التأويل المباشر تعني ان الموصوف ابن زنا، وفي التأويل العام، ان الموصوف يتحدر من منحدر وضيع، كأن تكون اسرته مفقرة، أو تمارس مهنة واطئة، أو ان تكون بلا نسب. وتفترض هذه المقولة أن القائل يفاخر بنسب نبيل، ومحتد كريم، وهو تفاخر لا يناسب الا خواء العقول. لعل الصغير يتخيل نفسه عملاقاً، وهو يعظ المصلين في جامع براثا الذين يتناقص عددهم كل شهر بانتظام، على الأرجح بسبب الملل. يمكن سماع الاتهام بوضاعة الاصل في لقاء خاص، او مجلس، ولكن يصعب قبوله في مسجد، وعلى منبر موعظة الجمعة. فالمسجد، بحسب أحكام الفقه على المذاهب كلها، وقف للمسلمين بعامة، وهو بهذا، ملكية الجماعة، وليس من أملاك الصغير أو الكبير، كي يتحول الى ساحة مقاضاة وتسوية للخصومات الشخصية، أو غيرها. كان صدّام يعلق خصومه على أعواد المشانق، ويغتال خصومه الهاربين، أما الصغار منهم فكان يأمر لهم بقطع اللسان. ويبدو أن ضروب العقاب هذه تداعب خيال واعظ جامع براثا وها نحن نتجاوز مبدأ الترادف في العقاب: السن بالسن، والعين بالعين، والكلمة بالكلمة، الى قانون التصاعد: الكلمة بطلقة، وحرية النقاش بوأده. والى جانب خرق حرمة المسجد كوقف لعامة المسلمين لا ملكية شخصية لفرد، وخرق حرمة قانون الترادف، ثمة قضية اخرى شائكة. هل يجوز الجمع بين وظيفتين، واحدة في البرلمان، وأخرى في الجامع. ان سائر أعضاء البرلمان لا يزاولون أي عمل آخر سوى عملهم المفترض كمشرعين، ومراقبين لسير الجهاز التنفيذي. ومعلوم أنه لا يسمح لأعضاء الجهاز التنفيذي ولا اعضاء الجهاز القضائي بدخول البرلمان والاحتفاظ بمناصبهم الأصلية. فمثل هذه الازدواجية غير قانونية. وعليه فإن وجود الصغير في المسجد غير قانوني، أو ان وجوده في البرلمان غير شرعي. وعلى الدولة ان تختار، إذا كانت تحترم الدستور. ان كراهية الواعظ للثقافة مفهومة، ففي عالمه الضيق لا وجود الا لعدد قليل ومفهوم من المقولات المتعلقة بالطهارة والنجاسة، والحلال والحرام. وهو يرى في هذه المقولات الاعمدة السبعة لحكمة عالمه المحدود، وهي اعمدة ثابتة لا يمكن النقاش فيها، أو التشكيك بها. وهو يعمم حرمة النقاش على سائر ميادين الحياة، فيضيق ذرعاً بكل وبأي نقاش. باختصار تكمن هنا جرثومة الاستبداد، وجرثومة المستبد. أبشع ما في العراق كراهية الدولة للثقافة، وأبشع ما في هذه الكراهية دور الوعاظ فيها. لكن تراجيديا الكاتب والملا والمثقفين لن تمر بصمت. لقد بدأت المعركة.