لا ينقضي العجب من تلك الإحصاءات القضائية المذهلة التي تفجؤك في غالب الزيارات القضائية لعدد من دول العالم التي تشرفت بالمشاركة فيها إبان العمل أميناً للجنة العليا للتخطيط الاستراتيجي في ديوان المظالم، ولم يكن مثار الإعجاب مؤسساتية العمل فحسب، إذ يتم تطبيق الوسائل البديلة لفض المنازعات على أدق وجه، عبر مؤسسات محترفة تمارس دور الوساطة والتوفيق والصلح والتحكيم في كثير من الأحيان، بل امتد ليطاول النسب والإحصاءات - ولغة الأرقام لا تكذب كما يقال - إذ تشير الإحصاءات إلى أن فض تلك المنازعات عبر الوسائل البديلة يتجاوز90 في المئة من حجم القضايا كما هو في تجربة دولة سنغافورة على سبيل المثال. كل ذلك يثير سؤالاً مهماً حول سبب عدم الإفادة الكبيرة من هذه الوسائل، ولاسيما أن ثقافتنا المستمدة من كتاب الله تعالى وسنة الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام تقوم على الحث على المصالحة والتوفيق، كما أصّلت لمبدأ التحكيم، وعززت كل القيم التي أراد الإسلام أن تسود ثقافتها في المجتمع مستمدةً شرعيتها من نور الوحيين، فأين مكمن الخلل يا ترى! إن من تأمل في تطور هذا المصطلح عبر استخدام المتخصصين مسمى الوسائل البديلة، ومن ثم التحول لوصفها بأنها «وسائل مفضلة»؛ ليظهر له بجلاء ما تحققه تلك الوسائل من سرعة وسرية تحمي سمعة التجار، وتسمح بدوام العشرة الحسنة واستمرار العلاقة بين أطراف النزاع، وهو في الوقت ذاته يحقق تخفيفاً على القضاء وسرعةً فائقة في البت في النزاعات، وهو ما يفسّر سر التحول إلى اعتبارها «وسائل مفضلة»، تفوق القضاء ذاته في رغبة الناس في استخدامه وسيلةً لحلّ خلافاتهم من دون الوصول إلى المحاكم. كما يمتد الحديث إلى رأس المال البشري العامل في تلك المؤسسات ومدى إلمامها وإتقانها فنون الوساطة والتوفيق والمصالحة، وتخصصها في ذلك للإسهام في الوصول إلى أدق النتائج في التحكيم المتخصص أو على يد المهرة من الوسطاء والمصلحين. إن الحديث عن أهمية تلك الوسائل ظاهر بجلاء؛ ما يوجب البحث في ما يتجاوز ذلك من الإجراءات والوسائل وشكلها وهذا هو الأهم؛ إذ يجب أن يطاول مؤسساتية العمل في هذه المراكز ودقة مواعيدها وهندسة إجراءاتها ونمذجة وثائقها لتحقيق «الجاذبية» المقصودة، التي يتحقق بفضل ضبطها إقبال المستثمرين ورجال الأعمال وغيرهم على فض المنازعات المتوقعة أو القائمة عبر تلك الوسائل، وهو عينه سر جاذبية غرفة التحكيم في باريس ولندن ونيويورك وغيرها، وصولاً إلى تحديد كل التفاصيل المتوقعة التي تكون غالباً محلاً للخلاف، كأتعاب التحكيم، والقانون واجب التطبيق وإجراءاته المتخذة، وانتهاءً بالمحكمين أنفسهم وتشكيل هيئة التحكيم وفق نماذج متخصصة؛ ما يُساعد بشكل كبير في حل تلك النزاعات، الأمر الذي ينعكس على دورة الاقتصاد في المجتمع. إن فرصة الإفادة من تجارب الآخرين في هذا السياق قائمة وسانحة، ولاسيما مع الاحتفال الكبير من المتخصصين بنظام التحكيم الجديد وتنظيم مركز المصالحة وما يمثله من نقلة كبيرة في تمكين الأطراف بحرية كاملة من سلوك التحكيم أو طريق التفاوض لإنهاء النزاع بالكلفة الأقل والوقت الأسرع. ولا يفوت في ختام هذه المقالة الإشارة إلى نجاح تجربة الإصلاح في عدد من المحاكم في شق الأحوال الشخصية، وقد حقق ذلك نسباً تصل وتتجاوز 60 في المئة في بعض المحاكم في المملكة ما يشير إلى قبول الناس، ومع مزيد من الإتقان والضبط والتنظيم في الإجراءات والدقة في الموضوع ستكون ثمار ذلك يانعةً بإذن الله. * محامٍ ومستشار قانوني [email protected] a.sgaih@