حمل الفصل الثالث من كتاب «الفكر والرقيب»، للأستاذ محمد القشعمي، «دار الكنوز الأدبية: لبنان»، غلة وافرة من الطرائف والنوادر حول علاقة مقص الرقيب بالصحف والمجلات السعودية... فمن جملة ما جاء فيه من وقائع، كان ما حصل للشيخ حمد الجاسر – رحمه الله – إبان إشرافه على صحيفة «اليمامة»، فترة الخمسينات الميلادية، من فصل تعسفي، وذلك بعد أن عنّون إفتتاحية صحيفته ب«مرحباً برسول السلام»، إذ كان يرحب فيها بزيارة الزعيم الهندي «جواهر لال نهرو» للبلاد... ومعظم الظن أن اقتران كلمة «رسول» بالضيف الهندي، ذي الأصول الهندوسية، قد كلفت الشيخ فقدانه لموقعه كمدير لكليتي العلوم الشرعية واللغة العربية! كما تناول الفصل الرابع من الكتاب بعضاً من الكتب التي أثارت امتعاض الرقيب... وإليك واحدة من تلك الحكايا الطريفة... عندما عرض الأديب والشاعر إبراهيم الفلالي (ت 1974) كتابه الموسوم «رجالات الحجاز» على الرقابة، جرى استدعاؤه واستكتابه تعهداً بألا ينشر الكتاب ولا يطبعه، وإلا فلا يلومنّ إلا نفسه... ما القضية؟ لقد وصف - رحمه الله وتجاوز عنه ذاكرة حبر الأمة «عبدالله بن العباس» - رضوان الله عليه - بأنها أشبه بعدسة آلة التصوير، لا ترى شيئاً، ولا تمر على شيء إلا واختزنته... قالت الرقابة للفلالي: «أي كفر أبلغ من هذا؟!... ذهن ابن عم الرسول كعدسة التصوير التي صنعها النصارى! أيشبه صنع الله تعالى في صحابي جليل بصنع النصارى؟... هذا كفر!...». شخصياً، وقع لي قبل أعوام عدة أمر له العجب مع الرقابة... إذ اعترض الرقيب على ورود اسم الخليفة «معاوية» في قصة شهيرة، لنفر من الخوارج تعاهدوا على قتل كل من علي ومعاوية وابن العاص، وذلك كان ضمن كتاب صغير، حوى بعضاً من المنمنمات التاريخية... إني، وإلى هذه اللحظة، أعلن عجزي ويأسي عن فهم هذا القرار «الملغز»، على رغم تواتر القصة وشيوعها بين جموع الرواة والمؤرخين بلا استثناء! إن الرقابة الرسمية، على رغم غلاظتها وهلاميتها وغرابتها ومزاجيتها، تبقى عندي أخف وأهون من الرقابة غير الرسمية، التي غالباً ما يتشمر لها طائفة من الناس، دائماً ما تزعم أنها على الحق، وأن ما سواها على الباطل... ذكر «القشعمي» في كتابه: «أن الأديب والمؤرخ أحمد السباعي (ت 1984)، كان قد وضع سلسلة من المقالات في صحيفة «صوت الحجاز»، تخيل فيها جماعة من الجن وهم يصدرون صحيفة في «الربع الخالي» باسم «المرصاد»... وبعد أن نشر فصولاً من تلك الحكاية الخرافية، اعترض أحد القضاة قائلاً: «هل يعرف السباعي لغة الجن؟»، فقيل له: «لا... هذا خيال»، فقال: «خيال... يعني «كذب»... أنا لا أوافق على نشر الكذب». ومع ما يفصلنا عن تلك الحادثة من عقود، إلا أن تلك الذهنية لا تزال تُعيد إنتاج المفاهيم والتصورات ذاتها... تمنح هذه الذهنية ما حولها بُعداً مادياً يغفل أي دلالة رمزية للأشياء... فبحسب آليات التفكير لهذا العقل يغدو الخيال كذب... والتمثيل خداع... والتماثيل أصنام... ألا تذكرون أحد مشايخ الأزهر، الذي خرج علينا قبل أعوام بفتوى مدهشة، زعم فيها أن مشاهد الزواج والطلاق في الأعمال الفنية ليست تمثيلاً وإنما حقيقة؟! فإذا قال الرجل للمرأة في أحد المشاهد التراجيدية: «روحي... إنتِ طالئ»، فتعتبر طالقاً في الحقيقة!... وأذكر أيضاً أنه وفي إحدى خطب الجمعة، سخر الخطيب – وهو بالمناسبة داعية وخطيب مصقع – من أكاذيب أهل الغناء، وقدراتهم على قطف نجوم السماء وقمرها لحبيباتهن، وهم أول من يعلم أنهم لو مدّوا أيديهم في الهواء لما حصدوا غير الخيبة!... ولك أن تتخيل حال الغناء والشعر والقصة والمسرح والسينما، في ما لو جُرِّم الخيال، وحُرِّم الإبداع؟... ولكن، ماذا عن القصص المنسوجة من خيوط الخيال، التي تدور في معظمها حول النساء والغناء وعذاب القبور؟... هل تدخل تلك القصص في باب الكذب، أم في باب الوعظ؟! [email protected]