تفجرت طاقة الروائي المصري رؤوف مسعد الإبداعية في السجن الذي دخله على خلفية اتهامه بالانتماء إلى تنظيم شيوعي، فكتب عمله المسرحي الأول، ثم توالت رواياته ومنها «بيضة النعامة» و «مزاج التماسيح»، وصولاً إلى أحدثها «غواية الوصال». حين ضاقت به الحال بعد خروجه من السجن، حزم حقائبه وغادر إلى بولندا لدراسة الإخراج المسرحي، ومن هناك سافر إلى غير بلد إلى أن استقر في أمستردام. هنا حوار معه: الواقع والمتخيل هو صلب «بيضة النعامة» وهي أيضاً رواية البحث عن الذات، فهل يمثُل مأزق الثقافة العربية في فخ الواقع والمتخيل؟ - أعتقد أن مأزق الثقافة العربية هو أعمق من ذلك بكثير، فالثقافة – أي ثقافة – هي نتاج ديناميكية المجتمع وخبراته الجمعية، كما أنها في الوقت ذاته محرك ديناميكي باتجاه «التقدم» حتى لو كان ذلك التقدم الذي يطلق عليه ابن خلدون «التقدم العمراني»، وهو بالطبع يعني ما نشير إليه هنا في أيامنا المعاصرة بالمجتمع المدني، الذي يؤكد أن اصطلاح مواطنة هو اصطلاح حضاري بالدرجة الأولى قبل أن يكون سياسياً. ولكن، ما مأزق الثقافة العربية تحديداً؟ - هنا، مكمن المأزق الثقافي العربي الذي تمتد جذوره إلى ما سمي «الجاهلية» وما كان طه حسين يريد أن يعيد صوغه وحدث له ما حدث من «تكفير»... والثقافة – أي ثقافة – هي رؤية جماعة بشرية محددة للكون، للطبيعة وما وراء الطبيعة، للواقع وللغيبيات، للحياة والموت وما بعد الموت، والتي تعبر عن نفسها بالدين وطقوسه، وبالإبداع البشري المتنوع من تجريد (موسيقى) ورسم وتماثيل تريد تقريب وأنسنة ما وراء الطبيعة الى العقل البشري، والقص بأنواعه باستخدام اللغة لتأسيس التواصل البشري والخبرة الإنسانية... وكيف تتطور الثقافة من هذا المنظور الذي طرحته؟ - بالتطور الجدلي المتواصل للعلاقات الاجتماعية، تتطور الثقافة في حركة متواصلة، مثل حركات المد والجذر ومثل تحركات مجاري الأنهار. لم تأتِ هذه الثقافة – وتطوراتها - من فراغ، بل من تراكم الخبرة الجمعية والذاكرة الجمعية لهذه الجماعة، وبكون اللغة هي الأداة الرئيسة للتعبير عن هذه الثقافة. ومثلما تصعد الإمبراطوريات وتنهار، تصعد الجماعات البشرية وتنهار أيضاً، ويكون صعودها وانهيارها «ثقافياً»، مثلما حدث للإمبراطورية الرومانية وما سبقها وما لحقها من إمبراطوريات. لكن ثمة ثقافات تستطيع أن تجدد نفسها مثل «العنقاء»، وهذا ما حدث للثقافة اللاتينية الغربية، وبدأ التجديد عبر اللغة، ثم عبر الدين، ثم فك الارتباط بين المقدس والدنيوي، وبالتالي فتح العقل أمام قبول الاكتشافات العلمية مثل أن الأرض ليست هي مركز الكون كما كانت الكنيسة تؤمن بذلك وتعاقب من يخالفه، وأن الأرض بالتالي، والبشر الذين يقطنون عليها هم مجرد جزء صغير في حركة كونية دائبة ومتواصلة، لا نملك لأنفسنا فيها خياراً. في خضم كل ما طرحته، أين يوجد الكاتب رؤوف مسعد؟ - أعتبر نفسي من مدرسة تؤمن بترابط الأشياء في شكل جدلي، وهي مدرسة أسسها هيغل، ثم طورها ماركس. هي ليست ماركسية كما يظن بعض التبسيطيين، بل إن أساسها المقولة الإغريقية: «أنت لا تنزل النهر الواحد مرتين». فأنا لا أستطيع الفصل بين التدهور الأخلاقي – مثلاً - لمن يتحرشون علناً بالإناث، عن الرؤية الاجتماعية المتدنية للفرد عموماً والأنثى خصوصاً، تلك التي تفرزها الثقافات الشمولية وتؤيدها تفسيرات وتبريرات دينية مغرضة. لا أستطيع أن أفصل بين ما ذكرت وبين تزايد قوة اليمين السياسي – الديني في مجتمعاتنا والذي يزيد الفقراء فقراً والأغنياء فُحشاً. بحكم إقامتك خارج مصر، هل أصبح الواقع المصري - العربي هو الآخر، أم ما زال الآخر هو الغربي؟ - هذا سؤال ملتبس. عموماً أنا قرأت أخيراً حواراً مع أمين معلوف يناقش فيه «الخارج والداخل»، فمعلوف يفكر ويكتب بالفرنسية، بينما أنا لا أستطيع التفكير والكتابة إلا بالعربية، ليس تعصباً وإنما قلة حيلة. ففي الغرب يوجد كُتاب قدموا من الشرقين الأقصى والأدنى يكتبون في الأغلب بلغة الدولة الغربية التي استوطنوا فيها. لكني لم أستطع ذلك، وحقيقة لم أهتم كثيراً بذلك أيضاً. أنا أساساً أكتب للاستمتاع بإنجاز شيء ما، لأني كنت أعاني دائماً من الإحساس بعدم الاكتمال، إن جاز التعبير. أعيش بين نقيضين: رغبتي في الاكتمال، وإحساسي بعدم إمكانية تحقيق ذلك لنقص فيّ أنا شخصياً، وقد يكون ذلك نتاج البروتستانتية التي لا تؤمن بجدوى الأفعال الطيبة، بمقدار إيمانها بتحقيق هذه الأفعال مهما كانت النتائج. سؤالك صعب، وإن أردتُ أن أكون دقيقاً، فسأجيبك بأني لا أعرف. كيف ترى الهوية القبطية التي طرحتها في «مزاج التماسيح»، بعدما وصلت جماعة «الإخوان المسلمين» إلى الحكم في مصر؟ - أعتقد أن «بيضة النعامة» كانت هي البحث عن الهوية المسيحية المصرية «المهاجرة» مثل «سنوحي»، وبدأت هجراتي (بصيغة الجمع) مبكراً. هجرت طبقتي إلى التنظيم الماركسي، وهجرت الكنيسة كمؤسسة دينية وتقبلتها كتيار ثقافي متحرك، هجرت السودان إلى مصر، وهجرت مصر إلى الغرب وإلى العالم. من هنا، كان اهتمامي هو البحث عن «الهوية» وعلاقتها بالمكان (أي الوطن) ثم علاقتها بالدين (اليهودية والمواطنة) ثم علاقتها بالصراع العرقي الذي قد يكون واضحاً بلا أقنعة مثلما كان في جنوب أفريقيا قبل تحررها من سيطرة «العرق الأبيض»، أو متخفياً خلف أقنعة القومية وأقنعة الوطنية وأقنعة الدينية. لكن «مزاج التماسيح» كانت وستظل عن «صراع الهويات» في مصر. ماذا عن كتابك «حوارات مع نصر حامد أبو زيد»؟ - الكتاب لم يصدر في هولندا لاختلافي مع المترجم والناشر، وصدر في طبعته الأولى في المغرب منذ سنوات، وصدر العام الماضي في مصر عن دار «الثقافة الجديدة»، وهو كتاب جدلي، وأضفت إليه الهوامش بعد صعود الإسلام السياسي في تونس ومصر إلى الحكم، ونفدت الطبعتان المغربية والمصرية. كيف ترى الوضع الثقافي الراهن؟ - صعب تقويمه، لأنه في حال مخاض عسير وولادة أصعب وسيبقى هكذا لفترة طويلة، بخاصة ونحن في عصر ثقافة الفايسبوك وتويتر التي تعتمد على التغريدات القصيرة. مصر كلها والشرق الأوسط في مخاض سياسي وطبقي وديني وطائفي عسير، وهذا يؤثر من دون شك سلباً في الثقافة في شكل أكبر من الإيجابيات. هل تابعت ما كتب إبداعياً عن الثورة المصرية أو الربيع العربي عموماً؟ - ليس ربيعاً، وليس خريفاً، لكنه «شتاء سخطنا»، كما قال شتاينبيك في روايته «عناقيد الغضب» عن صراع الأخوين. هذا يرجعنا مرة أخرى إلى الثقافة العربية التي تحجرت بعد إغلاق باب الاجتهاد، وهذا يفسر لك شتاء السخط الذي نعيشه... ومن دون الدخول في نظرية المؤامرة، أي «نعيب زماننا والعيب فينا»، فإن ما حدث ويحدث الآن هو نتاج طبيعي لوجود ثقافة شائهة، ومريضة تأسست على قرون من القهر والمداهنة والتماهي مع السجان: تعلن أن «الضرب في الميت حرام»، و «إن كان لك عند الكلب حاجة فقل له يا سيدي»... تأمل الإنجازات المعمارية في الأندلس الإسلامية – مثلاً - إنها إنجازات تعتمد على مبدأ فلسفي ومعماري مهم وهو اكتشاف ثيمة زخرفية ومعمارية لا تتنافى مع روح الإسلام الذي يرفض التصاوير والتماثيل، فأسسوا ثقافة فن «التكرار» فتحول الحرف من «مادة» إلى فكرة، ثم «فكرة مجردة»، حتى وصلوا إلى الكمال، كما في قصر الحمراء مثلاً. لم أقرأ – حتى الآن – عملاً إبداعياً – في مستوى الثورة، ربما لأن الوقت لا يزال مبكراً. الأميركيون كتبوا عن فيتنام والحرب الكثير، لكن بضع روايات وأفلاماً قليلة هي التي حازت اهتماماً عاماً، لأن «وقت» الكتابة هو غير وقت الفعل (الثورة أو الحرب) أنا أطلق عليه «أوان الكتابة» مثل أوان الزرع وأوان الحصاد. لعل أوان الكتابة عندي عن الثورة أسرع من غيري لأسباب شخصية مثلاً. لعله لإحساسي بتقدمي في العمر، ولعلها رغبتي في «إنجاز» شيء ما عن الثورة قبل الوفاة، أو لوجود «مخزون» من خبرات سياسية وكتابية آن له أن يظهر. وبالمناسبة، أنا شخص غير متواضع في ما يخص تقويمي أعمالي الأدبية.