ثقافة الجهل لدينا طاغية على ثقافة الوعي والفهم، فما إن اقترحت في مقالتي الأسبوع الماضي إدخال الموسيقى، والمسرح، والفلسفة، في مناهجنا الدراسية حتى انهال عليّ الناصحون، والمستنكرون، والمحتجون، فقد دعوت إلى منكر، واقترفت خطيئة كبرى من وجهة نظرهم. وعلى رغم أني لم أتطرق في الموضوع للغناء إلا أنهم ربطوه بالموسيقى، ولأنهم يجهلون قراءة التاريخ فهم لا يعرفون أن الغناء بدأ من مكةالمكرمةوالمدينةالمنورة، وأن أول من ضرب على آلة العود المغني المكي الشهير ابن سريج، وأخذ هذه الصنعة عن الفرس العجم الذين جاء بهم عبدالله بن الزبير «رضي الله عنه» لبناء الكعبة عندما تهدمت في عهده، وكانوا يغنون فأعجب أهل مكة غناؤهم، فقال ابن سريج: أنا أضرب به على غنائي، أي بطريقتي العربية، وكان هذا في عهد تعجُّ به مكةالمكرمةوالمدينةالمنورة بالصحابة والتابعين، ولم ينكروا عليه، بل إن هناك من العلماء والفقهاء من كان يستدعيه إلى داره ليؤنس أصحابه ومحبيه، وكما اشتهر «ابن سريج» في مكة، فقد اشتهر «معْبَد» في المدينةالمنورة. ليتهم يستبدلون بثقافة الاستنكار هذه ثقافة القراءة والاطلاع في كتب التراث، مثل الكامل للمبرد والأغاني لأبي فرج الأصفهاني، والعقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي، ومن الكتب الحديثة كتاب الغناء في مكةوالمدينة للدكتور شوقي ضيف الحاصل على جائزة الملك فيصل العالمية في الأدب العربي، وكثير من الكتب القديمة والحديثة في هذا الشأن، كانت المدينةالمنورةومكةالمكرمة مليئتين بالمغنيين والمغنيات الذين يضربون بالعود ومنهم «ابن سريج، ومعبد، والغَريض، وابن محرز، ومالك، وابن عائشة»، ومن المغنيات «عزة الميلاء، وعريب، وحبابة، وسلامة، وعنان» وأخريات، ولا نذهب بعيداً فقد كان الغناء من الجدول المدرسي اليومي لمدارسنا الحكومية، إذ كانت الإذاعة المدرسية في السبعينات والثمانينات الهجرية تبدأ بعد تلاوة القرآن الكريم بوصلة من الأغاني الوطنية، مثل «المروتين» لطارق عبدالحكيم، و«جزيرتنا تنادي» للموسيقار غازي علي، و«وطني الحبيب» لطلال مداح، وهذه كلها موثقة لدى كل المهتمين بتاريخ التعليم في المملكة. انسحبت الكثير من الفرق المسرحية الخليجية في مهرجان المسرح الخليجي المقام في جامعة الملك سعود قبل أيام احتجاجاً على منع الموسيقى في عروضهم، وهذا يعد تخلفاً حضارياً في عالم كله ممزوج بالموسيقى، حتى في طبيعة الله سبحانه وتعالى في أرضه، فأنت ترى العصافير تغني، والبحر يتفنن في تلحين أمواجه، والنخل يتلون في هسهسات سعفه، حتى الهدوء في ذاته موسيقى صامتة يتشكل منه ألف نغم وألف صدى. إن آية «لهو الحديث» التي يُستشهد بها على تحريم الغناء لم تنزل إلا في «النضر بن الحارث»، الذي كان يعارض دعوة الرسول «صلى الله عليه وسلم»، فيأخذ القوم ويحدثهم بالروايات، ليلههم عن الاستماع لكلام الرسول «صلى الله عليه وسلم». مَنْ المسؤول عن التربص والتوجس الذي سكن في قلوب وعقول التلاميذ حتى يتربص أحد الطلاب في مدارسنا، ويقوم بتصوير أستاذه وهو يعزف على غيتار لتستنفر مواقع التواصل الاجتماعي من بعض العقول المترعة بالجهل استنكاراً وتهويلاً، ولم يكن المعلم إلا ضحية لتلميذ أفسدته ثقافة المجتمع الجاهلة، بتلميذ مشبع بثقافة التحريم، لم يفهم أن المعلم جاء بالغيتار ليوضح للتلاميذ آلية اهتزاز الصوت؟ كما أوردت صحيفة «الحياة» الخبر. هذه الثقافة نفسها هي التي جعلت معلماً في القصيم يقدم استقالته احتجاجاً على رسم تعبيري في كتاب «لغتي» اعتقد أنه يمثل عثمان بن عفان «رضي الله عنه». [email protected] @zainabghasib