إن الأساس الذي يجب أن يقوم عليه الحكم بعد التحولات العربية وللتخلص من تفحل أصحاب العقليات التآمرية هو عملية نزع القيومية والقداسة عن السلطة ونقلها إلى المجتمع بكل هيئاته ومؤسساته وأفراده على حد سواء، بحيث يشاركون فيها على كل المستويات، وهذا المفهوم هو الذي يمكن أن يلبي رغبات جيل الثورات والتحولات العربية، إضافة إلى الثورات التي تخوض مخاض الانعتاق العسير في سورية، وهذا هو الذي يمكن أن يعكس أساسيات الإصلاح والكفاية الإدارية الوثابة في قيادة الدولة للمجتمع بسيادة القانون، ويسعى المجتمع من خلاله في المقابل إلى مزيد من المشاركة وتفعيل نفسه مدنياً. يبدو أن أحزابنا العربية الإسلامية والوطنية والقومية المؤهلة للحكم في هذه الفترة تسمح من خلال نظمها ومبادئها بتغلغل وترعرع أصحاب العقليات التآمرية، وليس لديها ما يحمي مكتشفي الفاسدين، وقد يكون من أسباب ذلك المبادئ الكبرى المرفوعة لديها والتي تعتبر سيفاً بحدين، مثل مبادئ الثقة والسمع والطاعة، رفقاء الفداء، والنضال والاعتقال وأخوة العربي، التي تصلح لعصور المغرم لكنها لا تصلح أبداً للفحات المغنم: الممثل بالحكم من الرئاسة حتى الحراسة، وثرواته ومحسوبياته التي يسيل لها لعاب اللاعبين. إن هذه المبادئ قبل تقلد الحكم لا تتناسب أبداً مع مرحلة الحكم التي يمكن أن تستغل كمتراس للمتآمر، طال سواكه وعلمه ولحيته أو قصر جلبابه- ويصبح على حق لأنه يتكلم بالمبادئ، على حساب المخلصين المتطلعين إلى التحرر، لتنفيذ أجندته الشخصية أو أجندة مشتركة مع غيره، أقلها السيطرة والتفرد بالحكم تحت المظلة الحزبية، ويصبح رأيه هو رأي الحزب متى أراد، وتغيب كل المؤسسات إذا كانت تتعارض وقيومية الحكم التي يضلل الناس بأنها «إلهية»، وكأنها اختزال لفكر الحكم في العصور الوسطى، وقد يتبرع أحد المؤصلين الشرعيين لتأصيل ذلك من تجارب الحكم القديمة. ليس غريباً أن تتكرر عندنا لعبة بوتين - ميدفيديف الروسية في الانتخابات الحزبية الداخلية بحيث يظهر المتآمر وكأنه شفاف ليرتب لمرحلة مقبلة أكبر وفق نظرية «التيس المستعار» القاضية بوضع محلل انتخابي يتلذذ بفترته وفق أعطيات النزوات، حتى لا تبلغ قيادته مدة كبيرة فيصنع عبر التحالفات والمصالح ذيلاً مطواعاً- قد يكون ظاهره الخير لكنه معول في يد غيره- مماثلاً للفترة التي حظي بها ميدفيديف بالرئاسة، والغريب أن هذا الأمر قد يستنسخ من القمة إلى القاع. ربما أدرك خطورة هذا الأمر بعض الحكماء الأوروبيين سابقاً عندما خرجوا من تجربتهم مع مبدأ الثقة بالمثل: «ثق ولكن تأكد». سئل برزجمهر أحد حكماء الفرس عن سبب زوال الدولة الساسانية من بعد قوة وشدة فقال: «لأنهم قلدوا كبار الأعمال صغار الرجال» أي المتآمرين والذين لا يمكن تسميتهم برجال الدولة بل معاول هدمها. وقيل إن موت ألف من أصحاب المواقف العظيمة أقل ضرراً من ارتفاع واحد من السفلة، وفي المثل قيل: «زوال الدول باصطناع السفل». وفي أدبيات الاتحاد السوفياتي انتشرت قصة عن «الكي جي بي» وكالة الاستخبارات السوفياتية أنه بعد فترة وجيزة من الثورة البولشيفية الروسية أصبح الاتحاد السوفياتي أكبر قوة عسكرية في العالم، حتى أنه حصل على لقب أول دولة تخترق الفضاء، وأصبح قطباً يمثل نصف الأرض من خلال الكتلة الشرقية والاشتراكية المواجه للغرب بقيادة الولاياتالمتحدة، لكن رجلاً واحداً بسياساته التآمرية استطاع عبر موقعه ومسؤولياته الحزبية والحكومية أن يدمر هذه الدولة وينخرها من الداخل، من خلال وضع الرجل غير المناسب في المكان الحساس الحرج، على عكس الحكمة القائلة: «وضع الرجل المناسب في المكان المناسب»، وزرع الموالين له في كل الأماكن المفصلية، من دون مراعاة أي ضابط أو معيار سوى الاستبداد والديكتاتورية ورأي الفرد، وليس مهماً إن كان متعاملاً مع وكالة الاستخبارات الأميركية من عدمه، فدوره أخطر بكثير من أي عميل على شاكلة إيلي كوهين. تترعرع وتنمو العقليات التآمرية، الإقصائية والاستبدادية في ظل غياب الشفافية والمساءلة والمحاسبة والرقابة الحقيقية، والغريب أن الحال العامة للإدارة أو الحزب أو الحركة تتدهور، سواء كانت اقتصادية أو عامة، بينما الحال الاقتصادية الخاصة للمتآمر تزدهر وتنمو يوماً بعد يوم، حيث تظهر مظاهر الترف ومعالم البذخ على هذه الشخصية التآمرية، فتجد شراء الأراضي وتدشين القصور الفارهة في الأوقات العصيبة التي يعاني منها المواطن العربي، والأغرب من ذلك أنك تجد الأتباع الذين يبررون ذلك بأن الرجل المتآمر إداري ناجح وله مغامرات مالية وهو لا يعدو أكثر من موظف يتقاضى معاشاً للعيش وليس للثراء.