ما بعد سقوط الدكتاتوريات هل تسود الفوضى أم تأتي المرحلة الانتقالية ساخنة لكنها قادرة على تجاوز الصعاب؟ الدولتان الأموية والعباسية قدّمتا عملاً كبيراً طوال تاريخهما، لكن الوهن، بسبب المطامع بالحكم، أدى إلى الانشقاقات ثم زوالهما، والأمر لم يكن بنقص قواعد الإسلام الدينية والفكرية، وإنما باستغلاله لمصالح الجماعات والأفراد، وهما الصيغة التي استمرت مع الامبراطوريات الغازية وخاصة الدولة العثمانية لتصعد ثم تنزل بنفس الأسباب. فالعرب لم يمارسوا الديموقراطية بأشكالها المختلفة والتي جعلت أوروبا لا تتفكك حتى في حربيها العظميين لأن القاعدة للديموقراطية متينة، والدليل أن الدول التي خرجت من الستار الحديدي السوفيتي لم تمر بانتكاسات متعددة، بل باشرت حكماً ديموقراطياً أدخلها عضوية الاتحاد الأوروبي، وباستثناء ما حدث من صربيا وحربها العنصرية ضد البوسنة والهرسك، فالسلاسة في الحكم استمرت بايقاع حضاري وثقافي غير قابلين للزعزعة. عكس العرب فأبوّة الأسرة، هي أبوة الإدارة والحكم وتتوزع السلطات على المحاسيب والأقرباء وأحزمة الأمن وفقاً للمنافع المتبادلة، وليس للكفاءة، وهنا صارت الاحتجاجات التي قوبلت بالنفي أو السجن العامل الذي يهدأ ثم يعود إلى أن جاءت الثورات كنهايات لإزالة الدكتاتوريات، لكن ما هو الجنين الذي سيولد من بطنها؟ هذه الصور هي التي ورثت الدكتاتوريات بأشكالها المختلفة وكرست مفهوم «الأب الحامي» فنشأت التبعية التاريخية، ونجدها مطلقة عند رئيس العشيرة والقبيلة، ورئاسة الحزب والطائفة، لذلك حجب الرأي وقتلت الحرية، ولم يتأسس جيل يمارس هذا العمل، إلا قلة ممن عايشوا الاستعمار ودرسوا في الغرب، ليرثوا الدولة لأزمنة قصيرة، ومع ذلك كان هناك تقاليد بدائية للأحزاب والبرلمانات، واستغلال القضاء وتنظيم نقابات العمال، إلا أن حرب 1948م، أظهرت جيلاً آخر من العسكر تولوا السلطة فكانت النكبة الثانية بعد فلسطين. فالقوانين فصلت على هوى تلك الحكومات فبرز العجز في الادارة السياسية كمرافق لسطوة رجال المباحث والأمن، فصار صوت المصلح متآمراً أو خارجاً عن القانون والمعارض عميلاً؛ إلى آخر التهم السهل إخراجها من قبل أجهزة الدولة، وهذه الآثار، هي التي تخيف من أي دور منحرف للثورات، طالما كل يدعي أنه «شاويش» الفصيل من أجل سرقتها، والمؤلم أن طروحات من يريدون الهيمنة على المرحلة القادمة، لا يرفعون شعارات الوحدة الوطنية وفق أسس واضحة، بل كل طرف يضع نفسه صاحب التاريخ والفضل عندما تعرض هو وجماعته أو حزبه للمطاردة، بينما الأهداف التي أعلنها الثوار لم تكن بهذا الغلو مثل الطرف الليبرالي أو السلفي فصارت القاعدة تأتي باستعراض القوة من أي فريق وتحولت أجهزة الإعلام إلى منابر تحريض وتخوين لتلهب المشاعر وتقرع أبواب الافتراق الطويل. اتفقنا أو اختلفنا، فميلاد ديموقراطية ناضجة تقبل بالتعايش بين جميع طبقات المجتمع بمحاورها الدينية وغيرها تبدو صعبة، لأن ثقافة الثأر المتأصلة في المجتمعات قائمة بكل اشتراطاتها، وهذا لا يعني عودة الدكتاتوريات وإنما ليسود التسامح، لأن مراحل الانتقال في مثل هذه الظروف، هي الأصعب والأعقد.