صباح يوم جميل في جدة، أما التاريخ فهو في العام 1978، ستتجه إلى مطعم «عم سعيد» بجوار مقبرة «أمنا حواء» لتناول إفطارك البلدي من «الكبدة» أو المقلقل، أو لعلك ستتقدم قليلاً لتتناوله من بوفيه «العمارة الخضراء»، خلف بناية الخطوط السعودية، ثم ستذهب إلى عملك في شارع نظيف غير مزدحم، مليء بشجر جدة الشهير «النيم»، إذ هويتها لا تتغير ولا تتبدل. وعند عودتك من عملك، بالتأكيد لن تقف في إشارة المرور 20 مرة، كما هي حالنا اليوم، بل ستمر بكل سهولة ويسر مستمتعاً بتحضر وتمدن مدينتك الجميلة. ستسير في شارع كيلو «ثلاثة» باتجاه حي مدائن الفهد، إذ بيوت جدة الجميلة الحديثة الطراز، وفي الطريق سترى «باصاً» يحمل طالبات مدارس دار الحنان مقبلات من مدرستهن بحي النزلة، وأنت متأكد أنهن يتحدثن اللغتين الإنكليزية والفرنسية بطلاقة، وكذلك يمارسن كل الفنون التعليمية المتمدنة، بما فيها ممارسة الموسيقى والرياضة المحرمة حالياً. وفي الطريق ستلاحظ أيضاً «باصاً» آخر لطلاب مدارس الثغر للأولاد، وهم يحملون أدواتهم الموسيقية الواضحة من شبابيك الحافلة، بعدما عزفوا وصلات موسيقية عالمية في حفلة مدرسية كبرى. عند المساء ستخرج من بيتك، إذ جدة معظمها «فلل» صغيرة وقليل من العمارات، تملؤها حدائق كثيفة يطل منها أشجار الليمون والجوافة والنخيل. ستذهب بالتأكيد لسينما «العمارية» المكيفة والمبنية على أحدث الطرز وقتها، وستشاهد فيلماً عربياً لفاتن حمامة وعمر الشريف. وعند عودتك ستمر على مطعم «شاكر»، وستذهب أنت وأطفالك كذلك إلى حلويات «مونتانا» في البغدادية، لتشتري منها حلوى «كلير، والماكرون»، وستعود بعدها إلى منزلك بعد أن قضيت يوماً جميلاً ثرياً بالحياة والمرح. في الغد هو يوم العائلة، وستذهب إلى كورنيش جدة الرملي الجميل، والمفتوح لكل الناس، وستُخير أبناءك بين الذهاب لحدائق «كيلو عشرة»، أو الذهاب لمدينة ألعاب «لونا بارك» الواقعة في شارع فلسطين، وهي الأحدث من نوعها في الشرق الأوسط. وإذا كنت من المهتمين بالفنون، فستجد لنفسك وقتاً في مساء الخميس لتقضي ساعات في معرض «جدة دوم»، وهو عبارة عن مبنى كروي مدهش الشكل، للفنون والرسم، وستجد فيه معرضاً تشكيلياً عالمياً، ومجموعة من المنحوتات لكبار فناني أوروبا. أما لو قدر لك أن تحب المناطق الأثرية بجمالها وسحرها، فستقف على أبواب جدة القديمة مبهوراً، وستفاجأ بأن الطرقات معبدة بالحجر ونظيفة جداً، ومضاءة بالفوانيس المعلقة، إذ تم إعادة ترميم معظم المنازل ورصف الطرقات وتحويلها لمتحف تاريخي مفتوح، بدءاً من حارة المظلوم حتى سوق العلوي، ماراً بأقدم منارة في الحجاز بعمر يتجاوز ال900 عام، وبمسجد أسسه الخليفة عثمان بن عفان، وببئر «عين فرج يسر»، التي سقت بعذب مائها أهل جدة منذ سكنتها قضاعة وحتى اندثارها. فإذا كنت ممن عاش تلك الفترة الجميلة وتذكرت ما كتبت، فأنت حتماً ستموت كمداً وحسرةً على مدينة كانت «أيقونة» الشرق، وتحولت بفعل «مجهول» إلى مجرد مدينة تكافح من أجل أن تقضي بقية أيام حياتها، وسلامتكم. [email protected] @dad6176