هنا، في هذا المبنى الذي طليت جدرانه بالأصفر، في غرفة متواضعة في الطبقة الثانية، وُلد فولفغانغ أماديوس موتسارت عام 1756. لم يكن الوصول إلى المبنى الأصفر مسألة صعبة خصوصاً أنه محجة السياح في مدينة سالزبورغ، مسقط رأس أحد أشهر عباقرة الموسيقى في العالم. على رغم ذلك، تمر أمام المبنى أكثر من مرة من دون أن يلفت نظرك لأن الصورة التي ترسمها في مخيلتك أقرب إلى قصر من قصور سالزبورغ الرائعة أو على الأقل مسكن خاص تحيط به الحدائق بأشجارها الباسقة. ولكن البيت الذي ولد فيه موتسارت أكثر تواضعاً، ولم يبق من أثاثه الأصلي سوى أول بيانو عزف عليه حين كان في الخامسة وبعض الأواني المطبخية. أما بقية الأثاث فقد أصابها التلف. لذا، أعيد تصميم بعضه وفق صورته الأصلية، علماً أن الأثاث يبدو تفصيلاً لا ينال من السحر الذي يلف هذا المكان. إذ يكفي الزائر أن يتنقل على الأرض التي حبا عليها موتسارت، ويتلمس الجدران التي شهدت صرخته الأولى، ويقف أمام البيانو الذي داعبت أنامله الطرية مفاتيحه، حتى يشعر بأن ثمة علاقة شخصية باتت تربطه بصاحب هذا المنزل بعد مرور قرون على وفاته. قلعة الملح على رغم أن سالزبورغ بنت شهرتها العالمية على أمجاد موتسارت، فان تاريخها يعود إلى نهاية القرن السابع حين كان أول حكامها الأمير الكاثوليكي المستقل رئيس الأساقفة روبارت الذي لا يزال يحظى حتى اليوم بمكانة دينية فيها بعدما أدرج في خانة القديسين. عاشت سالزبورغ تحت حكم الأساقفة الذين طبعوا هويتها وطوروها لتصبح على ما هي عليه، حتى أوائل القرن التاسع عشر. واستمدت سالزبورغ لقب «قلعة الملح» بسبب الملح الذي كان متوافراً بكثرة، مشكلاً مصدر ثراء وغنى كبيرين استحق معه لقب الذهب الأبيض. وقد عرفت سالزبورغ التي أصبحت مدينة مهمة في العصر الروماني كيف تستفيد من ثرواتها الباطنية في عمليات التبادل التجاري التي كان لها الفضل الكبير في بنائها على الطراز الفني الإيطالي ليطلق عليها لقب روما الشمال. كل شيء في سالزبورغ مختلف. قد لا يعدو الأمر مجرد شعور تصعب ترجمته، وقد يكون انحيازاً عاطفياً للمدينة التي قدمت إلى العالم أحد أهم عباقرة الموسيقى. إذ تشبه سالزبورغ، وهي رابع أكبر مدينة في النمسا، وعاصمة ولاية سالزبورغ الاتحادية، المناخات التي تولدها موسيقى موتسارت في النفوس. إنها مدينة حالمة وغارقة في الرومانسية. تحتضنها الجبال الشاهقة، في حين تنساب مياه نهر السالزاك لتشطرها جزءين سيعاد وصلهما ببعضها البعض بواسطة جسور غالباً ما يجتازها السياح مشياً لبلوغ الأحياء القديمة التي تستريح على هضاب مونسبرغ. هناك تضيق الأزقة المرصوفة بالحصى التي تكاد لا تتسع أحياناً للمارة، وتنتصب المباني العريقة المشيدة على الطراز الباروكي. حافظت هذه الأحياء على طابعها القديم، وتركت العصور المتعاقبة بصماتها على عمارتها بدءاً من العصور الوسطى مروراً بالعصر الروماني وعصر النهضة وصولاً إلى الحقبة الملكية، مما دفع اليونيسكو إلى إدراجها في لائحة التراث العالمي عام 1997. تكتظ هذه الأحياء، حيث تنتشر المقاهي والمطاعم والمحال التجارية، بالسياح الذين يقصدونها على مدار السنة ليبلغ عددهم نحو ستة ملايين ونصف المليون سائح سنوياً. وتجهد عربات الخيل لتجد لها مكاناً تستريح فيه بانتظار أولئك الذين يرغبون في التجوال بواسطتها بوصفها طقساً سياحياً أكثر منها وسيلة نقل لا يحتاجون إليها عملياً. لكن لا نفع لهذه العربات لبلوغ قلعة هوهن سالزبورغ التي شيدها رئيس الأساقفة غيبهارد عام 1077 على مساحة 14 ألف متر مربع فوق منطقة صخرية تشرف على المدينة. وشكلت هذه القلعة حصناً ومقراً سكنياً موقتاً لرؤساء أساقفة المدينة قبل أن تتحول إلى متحف. قد يقترح عليك أحد العاملين في المراكز السياحية الصعود إلى القلعة مشياً لغاية في نفسه. قد تبرر أسباب هذا الاقتراح الغريب بسوء تواصل لغوي لتكتم غيظك وخصوصاً أن الرحلة شاقة ومنهكة. تنهي زيارة القلعة وتصل إلى الباحة التي انطلقت منها، تلفت نظرك حديقة خلابة وسرعان ما تكتشف أنك داخل مقبرة سانت بيتر، وهي واحدةٌ من أقدم المقابر في التاريخ وأجملها، تجاورها الكنيسة التي أسست عام 700 وتحمل الاسم عينه. إنها مفارقة أن تتحول المقابر إلى مراكز تعج بالسياح، ولكن مقبرة سانت بيتر قصة أخرى، إنها تحفة فنية تدفعك إلى التصالح مع فكرة الموت... ولو للحظات. «صوت الموسيقى» ومن يخشى المقابر ولا يجرؤ على الدخول إليها مهما بلغت روعة حدائقها، فلا بد أن يزور حدائق ميرابيل المذهلة التي صممها يوهان برنارد فيشر فون ايرلاك عام 1690، ثم أعيد تنظيمها عام 1730، علماً أن أبوابها فتحت أمام العامة في عهد الإمبراطور فرانز جوزف عام 1854. لا تشعر بأي رغبة في الخروج من هذه الحدائق الخلابة حيث يجول نظرك في أرجائها في محاولة لالتقاط أدق تفاصيلها، فيقع على نافورة بيغازوس التي بنيت عام 1913 وحولها توزعت التماثيل الأربعة التي نحتها موستو اوتافيو وترمز إلى عناصر الحياة الأربعة: النار والهواء والأرض والماء. تغالب النعاس في استرخائك على أحد المقاعد الخشبية في فيء شجرة معمرة حين يجتاح المكان وفد سياحي آسيوي لا يتوقف عن إصدار صيحات الدهشة التي صدحت عالياً حين اكتشف أعضاؤه أن مشاهد عدة من فيلم «صوت الموسيقى» الشهير (بطولة جولي أندروز وكريستوفر بلامر - 1965)، صوّرت في هذه الحديقة. ويمكن تخيّل ردود فعله حين يكمل الوفد جولته على مواقع تصوير الفيلم الأخرى التي أدرجتها الشركات السياحية ضمن برامجها مستفيدة من شهرة هذا الفيلم العالمية ورغبة الناس في استحضار حكاية أسرة «فون تراب» التي عاشت في تلك البقعة الخلابة قبل أن تهجرها بسبب التمدد النازي خلال الحرب العالمية الثانية. قد لا يبدو منطقياً أن تكتفي سالزبورغ بمعالمها الطبيعية وارثها التاريخي لجذب السياح. فالمدينة التي شهدت ولادة موتسارت تستحق أن تلعب دوراً أكبر من ذلك إكراماً للموسيقار الذي لم يحظ بالتقدير الذي تستحقه عبقريته إلا بعد وفاته. لذا، تحولت سالزبورغ عاصمة للثقافة واستحقت لقب مسرح العالم. إذ أنها تقدم برامج ثقافية تتضمن أكثر من أربعة آلاف حدث على مدار السنة، أهمها مهرجان صيف سالزبورغ الذي بدأ عام 1920 بمبادرة من مجموعة من الفنانين والمثقفين ليجعل من هذه المدينة الوادعة مركزاً عالمياً للفنون. وسرعان ما تحول هذا المهرجان ملتقى لعشاق الفنون الموسيقية والمسرحية في العالم، إذ يرتفع عدد التذاكر التي تباع خلال الموسم إلى 200 ألف، علماً أن هذه الأعمال يعاد عرضها على مدار السنة في الأماكن التاريخية ومنها قصر ميرابيل وقلعة هوهين وسرداب دير سانت بيتر، وهو أقدم مطعم في سالزبورغ. ولكن الموسيقى في سالزبورغ ليست مجرد حفلات منظمة، بل تدخل في نسيج المدينة الاجتماعي، وتكاد تكون الهواء الذي يتنفسه أبناؤها حيث يبدو مشهد الشبان أو حتى الفتيان الذين يحملون الكمان لتعلم العزف أمراً مألوفاً حيث يمكن مصادفة مجموعة تحلقت حول طاولة في مطعم وبدأت العزف غير آبهة بفضول السياح الذي تقابله بابتسامة تحمل دعوة للاستماع والاستمتاع. ... تود لو تنهي إجازتك متسكعاً في أسواق سالزبورغ القديمة أو مسترخياً في حديقة ميرابيل أو متأملاً المدينة من قلعتها. لكن ثمة من يهمس في أذنك أنه لا بد من زيارة المناطق المحيطة، وأهمها قريتا «سانت غيلغين» و«فوشل آم سي» وبحيرة «موندسي». تأخذ بالنصيحة وتصل إلى حيث تسقط عنك همومك دفعة واحدة. فجأة يصبح كل العالم خلفك وتشعر بأنك ولدت مجدداً.