لا يمر يوم في لبنان إلا ويتأكد مدى ترابط أزماته الداخلية مع وقائع الأزمة السورية المفتوحة. وليس صدفة أن يتداخل الخلاف الداخلي حول قانون الانتخاب وتبادل الاتهامات حول السعي الى تأجيل الاستحقاق الانتخابي المقرر في 9 حزيران (يونيو) المقبل، مع الانقسام المتزايد حيال ما يجري في سورية. وليس غريباً أن يصل الصراع في الشأنين الداخلي والسوري الى ذروة متوازية وفي توقيت واحد. ويكون من السذاجة عدم رؤية العلاقة بين إصرار رئيسي الجمهورية ميشال سليمان والحكومة نجيب ميقاتي على الدعوة الى الانتخابات ولو على أساس قانون مختلف عليه، لكنه نافذ، وبين الحملة التي ووجهت بها هذه الدعوة من حلفاء سورية وإيران، ودعوة وزير الخارجية اللبناني عدنان منصور الى رفع قرار تعليق عضوية سورية في الجامعة العربية والحملة التي واجهته من قوى 14 آذار التي تعتبر أن النظام السوري آيل الى السقوط، مقابل توخي منصور الذي يمثل تطلعات «حزب الله» وحلفائه إعادة تكريس شرعية النظام تحت مظلة الجهود الدولية المفترضة سعياً وراء حل سياسي في سورية. يختصر الترابط بين المسألتين مدى حاجة القوى السياسية الحليفة للنظام السوري في لبنان الى غطاء السلطة السياسية المركزية من أجل مواصلة سياسة دعم النظام انطلاقاً من لبنان. وبهذا المعنى يرمز الصراع على قانون الانتخاب وعلى إجراء أو عدم إجراء الانتخابات في موعدها، الى الخلاف على ما إذا كان لبنان يجب أن يكون ساحة مساعدة على إطالة عمر النظام في دمشق أم أنه يجب أن يلتزم مقاطعته. فالسلطة التي ستعيد الانتخابات إنتاجها ستحدد السياسة اللبنانية الرسمية حيال الصراع في سورية، في وقت يعتبر «حزب الله»، الفريق الأقوى والأكثر فاعلية في الطاقم الحاكم الآن أنه يخوض معركة مصير بدفاعه عن نظام بشار الأسد ولو بالسلاح وإرسال المقاتلين الى دمشق أو الى منطقة القصير وحمص في القرى والبلدات المحاذية لمنطقة نفوذه في البقاع الشمالي. فإذا ضمن أن تعزز الانتخابات أكثرية لمصلحته دعم القانون الذي يحقق هذه النتيجة. أما إذا لم يضمن ذلك، فإنه يفضل تأجيلاً مديداً لهذه الانتخابات، لأنه كما يقول أحد الوزراء يوفر له بقاء هذه الحكومة التي لن يضمن تشكيل مثلها لاحقاً، ولأنها تشكل التغطية الأفضل لسياسة الدعم السياسي والعسكري والأمني لنظام دمشق. ومجيء سلطة أخرى وحكومة مختلفة، سيجعل من الصعب تمرير المحروقات والبضائع وتهريب الأموال وتخطي العقوبات الغربية المفروضة على قيادات النظام وسفرهم وتنقلهم باتجاه عواصم مساندة للنظام، خصوصاً طهران وموسكو. لم تعد الانتخابات اللبنانية شأناً داخلياً بحتاً، على رغم ما يردده سفراء الدول الكبرى في بيروت. ولربما تنبه هؤلاء الى مغزى عدم إجراء الانتخابات في موعدها فعادوا يدعون الى حصولها بعد أن تيقنوا أن تأجيلها هو تمديد لواقع يعاكس مواقف حكوماتهم من الأزمة السورية. ولو لم يكن الأمر كذلك لما جاء التحذير الذي أطلقته دول مجلس التعاون الخليجي بوجوب التزام لبنان سياسة النأي بالنفس، بعدما أفاد النظام السوري من وجود سلطة متماسكة فيه. يكشف الترابط بين الانتخابات اللبنانية وبين الأزمة السورية مدى البعد الاستراتيجي لهوية السلطة السياسية المستقبلية في لبنان في حسابات القوى المتصارعة. بل ان ما يجري في لبنان، وما يهيأ له في السياق الإقليمي، قد يكون نموذجاً لما يهيأ لسورية أيضاً انطلاقاً من أراضيه. فالنظر الى المسرح الإقليمي يشير الى تشابه الاستراتيجية المتبعة في عدد من دوله الأساسية، حيث لإيران موطئ قدم يرجح كفتها في القرار من طريق وجود حكومة لا تتمتع بمركزية القرار، ففئوية التمثيل قياساً الى تعددية القوى السياسية والطائفية كما هي الحال في العراق وسورية ولبنان، بموازاة وجود قوة عسكرية موازية لقوة الدولة، تفرض عليها حسابات جهوية، وسط تعدد الأجهزة العسكرية والأمنية الموزعة الولاءات. وإذا كان هذا يقود الى ضعف الدولة فإنه يسهل للنافذين فيها وخارجها أن يوجهوا الأحداث والقرارات، سواء باسمها أو باسم الأمر الواقع. ولا يؤسس الوجود الإيراني المباشر على الأرض في سورية وكذلك وجود مقاتلي «حزب الله» في عدد من المناطق، وتدريب جيش شعبي موالٍ للنظام وبإشراف من طهران إلا لحالة شبيهة في ظل تداعي مركزية الدولة في سورية. إذا بقي النظام صامداً في سورية تبقى للجيش الموازي الذي نشأ في سورية كلمته في أي تسوية إذا حان وقتها. وإذا سقط النظام وصمد الجيش الموازي الذي أُنشئ فإنه سيقوّض مركزية الدولة الجديدة التي ستنشأ لأنها ستكون عاجزة عن مد سلطتها على سائر الأراضي السورية التي ستخضع حينها لتقاسم نفوذ. في لبنان يجري العمل على ضمان بقاء السلطة على ما هي عليه إما بالانتخابات أو بتعطيلها، وفي سورية (وفي العراق) يجري الحؤول دون تغيير السلطة وإذا تعذر ذلك فالبديل هو الحؤول دون تمكن أي نظام جديد من أن يمسك زمام الأمور إذا استمرت الحرب بين المكونات السورية من بعدها، بالإفادة من الفوضى التي يتيحها غياب أي سلطة مركزية.