لعلّها المرّة الأولى نقرأ فيها سيرة ذاتية يكتبها قاضٍ هو غالب غانم، وافياً الشروط التي استخلصها الناقد الفرنسي فيليب لوجون في شأنها، في كتابه الشهير «ميثاق السيرة الذاتية»، واصفاً إياها ب «القصة الارتدادية النثرية التي يروي فيها شخص واقعي وجوده الخاص». غالب غانم لم يكتب مذكرات قضائية أو يوميات بل كتب سيرة ذاتية يتقاطع فيها الأدبي والقضائي، السردي والوثائقي، في نسيج يغلب عليه فنّ الكتابة الذي يمسي تحت قلم غالب غانم تفنّناً في الكتابة وصنعة من غير كلفة ومراساً في «التأدب». وقد يكون كتابه «باسم الشعب... وللشعب» (كتاب «السفير» – دار الفارابي) خير مثالٍ للسيرة الذاتية المشرعة على أفق جديد، هو أفق القضاء الحافل بالوقائع والمرويّات، المتراوحة بين الخاص والعام. لم يكن غالب غانم القاضي غريباً البتة عن عالم الأدب، فوالده عبدالله غانم، شاعر «فوق الضباب» واحد من روّاد المقلب الأخير من عصر النهضة الشعرية... إلا أن غالب غانم لم يكتف فحسب بالأدب، فهو جمع إليه النقد الأكاديمي وله في حقله مبحثان رائدان، الأول هو عن «الشعر اللبناني بالفرنسية» والثاني عن «شعر عبدالله غانم»، وكلاهما صدر عن منشورات الجامعة اللبنانية. ولعلّ وجه الأديب والناقد هو الذي منح وجه القاضي في شخص غالب غانم، هذه الفرادة، عطفاً على ثقافته الرحبة، والتزامه «الانسانويّ» الذي يجمع بين الفرد والجماعة. إنها سيرة ذاتية إذاً، يفتتحها صاحبها في اللحظة التي تقدّم فيها الى مباراة معهد الدروس القضائية عام 1972، ويختتمها في اللحظة التي غادر فيها القضاء جراء «سنّة العمر» بعد ثمانية وثلاثين عاماً من النطق باسم الشعب وللشعب، متبنياً مقولة القاضي الفرنسي انطونان بسّون لدى مغادرته القضاء: «في التحليل الأخير، لم أعد قاضياً، لم أعد محامياً، لم أعد سوى إنسان، وهذه أرفع صفة تخوّلني التحدّث عن عدالة البشر». ولم يكن مفاجئاً أن يختتم قاضينا كتابه بهذه الجملة، فهي تعبّر خير تعبير عن العدالة بصفتها نزعة إنسانية، لا تكفّ عن الاعتمال في الذات. إلا أن غالب غانم الذي لم يعد قاضياً. وبين هاتين اللحظتين التاريخيتين تمتد هذه السيرة التي شاءها الكاتب، صريحة وجريئة وواقعية، على رغم خضوعها لتقنية السرد الاسترجاعي والتأمل والإغراء الادبي. أما ما يجدر الاستهلال به هنا، فهو تطرّق المؤلف للعلاقة بين القضاء والأدب، وهي علاقة شائكة عرفتها آداب الشعوب، منذ فجر الحضارات، وما برحت حتى الآن مطروحة على بساط النقاش. وقد عرف التاريخ أسماء كبيرة نجحت في التوفيق بين المهنتين أو «الصناعتين» إن جاز القول، فلم يوقعها «القضاء» (أو «المحاماة») في جفافه وقسوته الناجمين عن موضوعيته ومنطقه ولم يسُقها الأدب الى مهاويه وما أكثرها. وغالب غانم، وفِّق كثيراً في فعل «الجمع» هذا، فحافظ على الوجهين فيه وعلى «الصناعتين»، فبدا قاضياً وكاتباً في حال من الانفصام والاتحاد في آن. ولعله مِنْ خيرة مَن عالجوا هذه العلاقة، تبعاً لتمرّسه في الحقلين. وهو يعرب في مطلع كتابه عن تعلّقه باللغة العربية، التي كانت ولا تزال، برأيه، في مقدمة «الجياد» التي يراهن على «طاقاتها وطوالعها الساحرة» كلّما خاض علم القانون أو فن الأدب. ويعترف أنه كان منذ يفاعة العمر من «أصحاب الولع بالكتب والأقلام» كما بالثقافة عموماً التي لا حدود لها نهائية ولا تحديد شاملاً. لكنّه أدرك جيداً أنّ الثقافة «ذات كيمياء سحرية» تفعل فعلها «في البلورة والصهر والتطوير». أما في شأن العلاقة بين «الأدب والقانون» وهو خصّها بنصّ بحثي، فيرى أنّ في كلّ من القانون والأدب حياة للآخر «إذا أعانه بحذر» وأنّ فيه «موتاً له إذا انهمر عليه بإفراط». ويمضي في بلورة هذه العلاقة قائلاً بلهجة فصيحة: «من نحوٍ، نبض من القلب يحرّك حشداً من العقل، وسحر من اللغة يحتضن فيضاً من الفكر. ومن نحو آخر، أصول نظام تلجم انفلات حرية، وحبال واقع تشدّ شرود حلم... فلولا هذه المؤازرة لضعُف اللونان، ولولا هذه المحاذرة لسقط الجوادان». وغالب غانم، الذي يُعدّ أحد ورثة «المدرسة الأدبية القانونية» اللبنانية التي تبلورت على يد كبار الأدباء المحامين أو القضاة، يدعو الى فتح أبواب القانون والأدب بعضها على بعض، من دون مغالاة أو إفراط وإغراق، لئلا تضيع معالم النوعين، كما يعبّر، فيعاني الأدب مغبّة «المنطق الجاف» ويقاسي القانون تبعة «الخيال المضل» و «الوجدان الشَرود». إنها المعادلة المثلى التي يخلص الكاتب إليها موازناً بين الأدب والقانون، ولعلّه هو من الذين اعتمدوا هذه المعادلة وطبّقوها في مؤالفتهم بين هذين الضربين من المعرفة. ولغته ولعبته الأسلوبية ونزعته الجمالية البيّنة هي خير مثال على مضيّه في غواية الأدب، ولكن ليس على حساب الفكرة أو الموقف. تأملات ورؤى تحفل سيرة غالب غانم القاضي ورجل القانون بالكثير من القضايا والشؤون والتأملات والرؤى، منها ما يتعلّق بعالم القضاء وما يندّ عنه ويتفرّع منه، ومنها ما يرتبط بالإنسان، فرداً وشعباً، بهموم هذا الانسان وشجون هذا الشعب. ويتعرّض، من وجهة «القاضي»، للمشكلات والأخطار والأخطاء التي تعتري عمل القضاء و «جسمه»، ساعياً إلى استخلاص «أخلاقيات» لا بدّ من ترسيخها، ولكن من غير أن يؤدّي بتاتاً شخصية «الواعظ» ودور «المرشد». بل تبلغ به جرأته شأوها فلا يبرّئ نفسه من بضعة أخطاء لا يمكن التحاشي عنها. فالقاضي في نظره إنسان والإنسان عرضة دوماً للخطأ. وفي يقينه أن الخطر الأول الذي يواجهه القاضي – أياً يكن – هو خطر الذات، ويقول في هذا الصدد: «لقد أيقنت بالفعل أنّ الخطر الأول على الذات هو الذات، والخطر الأول على القاضي هو القاضي». ويسأل غانم هنا جهاراً وبلا تردّد: «مَن منّا يستطيع الادعاء أنّه أتمّ حياته المهنية من دون الوقوع في الخطأ؟». ويضيف: «الخطأ، كالصواب، ملازم لقدرات البشر ولحركة الحياة. وهو، بمعنى من المعاني، الوجه الآخر للفضيلة». والمعضلة في هذا القبيل، ليست الوقوع في الخطأ، بل في «اعتياد الخطأ، وفي حجمه أو جسامته، وفي قصد ارتكابه». لكنّه يشير الى أخطار كثيرة يجب على القاضي أن يجبهها ومنها: الاستسلام للإغراء المادي الممنوع، مظاهر الكبرياء الفارغة، الرضا بالانتاج القليل، التعوّد على التأجيل والتطويل، استسلام القاضي ل «الغزوات» التي تهب على «الملف» من جهات عدّة، أولها السياسة والسياسيون... وهذه الأخطار لمسها الشعب اللبناني ويلمسها في الجسم القضائي دوماً، وبعضها كان مثار فضائح لا توصف. اما النزاهة، كما يقول غانم، فهي «من قبيل تحصيل الحاصل أو لزوم ما لا يلزم، وهي من العناصر الأصلية المكوّنة لمادة القضاء». إنها «قاعدة أصلية من قواعد الأخلاقيات القضائية». يُقرأ كتاب «باسم الشعب... وللشعب» أكثر من قراءة نظراً الى تعدّد مداخله، فهو أولاً سيرة ذاتية لقاضٍ وأديب، وهو ثانياً سيرة للقضاء اللبناني في إحدى حقباته الحرجة المحفوفة ب «الحروب» اللبنانية الداخلية المتعاقبة، أمّا ثالثاً فهو كتاب ينعم بما يسمّيه رولان بارت «لذة النص»، وفي إمكان أي قارئ أن يقرأه بمتعة وإن كان لا يلمّ كثيراً بأسرار القضاء. لكنّ أهل القانون، محامين وقضاة وباحثين، يجدون فيه ضالّتهم، فالكاتب يسعى، وفق إحدى غايات الكتاب، الى استخلاص «أخلاقيات» قضائية، تعني هؤلاء مثلما تعني المثقفين والجامعيين والقراء العاديين. وهذا الكتاب هو أصلاً خلاصة تجربة طويلة في حقل القضاء والقانون، عاشها غانم، عن كثب، بتفاصيلها وأسرارها والمشكلات الكثيرة التي اعترتها. وكم كان لائقاً بهذه السيرة أن تصدر في صيغة أخرى، متحرّرة من أسر «التأريخ» الذي حملته فصولها. ومعروف أن غانم كان نشر هذا الكتاب مقالاً تلو مقال في جريدة «السفير». وحبّذا لو يعيد إصدارها بصفتها سيرة ذاتية، فيعيد حبك المقالات المتوالية وفق إيقاع كرونولوجي «سيروي»، مضيفاً إليها أو مشذباً منها، ممّا يجعلها خلواً من الطابع الصحافي. إنها سيرة ذاتية فريدة، تطلّ في آن واحد، على عالم القضاء وعلى عالم الأدب في صورته الجمالية.