بدل أن يقوم نوري المالكي بما هو واجبه فيطرح مبادرة للخروج من الأزمة العصيبة في العراق، وهي أزمة داخلية أولاً وأخيراً قبل أن تكون لها تشعّبات اقليمية، فقد اختار أن يهرب الى الخارج، الى سورية. وبدل أن يؤكد ما أعلنه سابقاً واتهم به خصومه، أي رفضه الانجرار الى صراع طائفي، فإذا به يقرع طبول هذه الصراع، متبرّعاً بتقدير للموقف مفاده أن انتصار الثورة في سورية لا بدّ من أن يعني اندلاع حرب طائفية في العراق وحرب أهلية في لبنان وانقساماً في الاردن. في لبنان، اختار حسن نصرالله لغةً مواربة للوصول الى التقويم نفسه، بلهجة أكثر غطرسة وقوة وأكثر استصغاراً للخصوم. اذ هددهم ب «الفتنة» التي قال إنه لا يريدها، وحذّرهم من أي خطأ في تقويم قدرات «حزب الله». واذا كان الأمين العام لهذا الحزب يتساهل معهم الآن اذ يكثرون الكلام عن سلاحه «غير الشرعي» الذي استُخدم ضد اللبنانيين في الداخل وبات يُستخدم ضد السوريين داخل سورية، فإنه يتحسّب خصوصاً لسقوط النظام ولانتصار المعارضة، وهما احتمالان مستبعدان في عرفه، ومن دون الاعتراف بأي هامش للخطأ، بل يكاد يُقسم بأنهما لن يتحققا. لا يبالي المالكي بالدستور العراقي وما يمنحه لكلٍّ من مكوّنات المجتمع وقد بات أحدها، الذي يمثله هو، متخاصماً مع المكوّنين الآخرين. ولا يكترث نصرالله بالدولة أو بالجيش أو بمبدأ التعايش بين الطوائف، لأنه يتبع منهج «فرّق تسد»، ويمارس السلطة في لبنان على طريقة «حكم المرشد» في مصر. فالاثنان يقولان حالياً ما يمكن كشفه من الخطة الايرانية في حال وقعت الخسارة الكبرى وسقط النظام السوري في شكل أو في آخر، وقد باتت طهران مدركة أن حتى «الحل السياسي» الذي تحاول روسيا طبخه لا يمكن أن يعني بقاء النظام. لماذا دُفعت الخطة الايرانية الى الواجهة في هذا التوقيت؟ لأن طهران أدركت أن ثمة تغييراً بدأ في المقاربة الدولية (الاميركية) للأزمة السورية ولن يكون لمصلحتها، فهي مثل نظام بشار الاسد لا تحبذ كل هذا الترويج ل «حل سياسي»، اذ يفضّلان استمرار الصراع لاعتقادهما بأن الحسم ممكن. والسبب الآخر لظهور الخطة هو أن الايرانيين يريدون التحكّم بالوضع السوري لتنسيق تطوّره مع التقدّم في مفاوضاتهم النووية. فطهران تخاطب الغرب، وبالأخص الولاياتالمتحدة، وطالما أن هذه المفاوضات بالكاد شهدت شبه انفراج أولي في ألما آتا، ويلزم وقت وتنازلات لتأكيد الاختراق، فقد شاءت لفت النظر الى الورقة التالية التي ستلعبها: العبث بالاقليم تسريعاً للتفاوض معها «حول سورية والبحرين»، كما طلبت مراراً. ولأن المفاوضات النووية يُفترَض أن تحقق نجاحاً كاملاً لتمهّد الطريق للتفاوض الثنائي مع الولاياتالمتحدة، فإن طهران حرّكت بيادقها لتقول إن حل الأزمة النووية وسقوط النظام السوري، اذا حصلا، لا يمكن أن يقللا من نفوذها الاقليمي، بدليل أنها قادرة على تخريب أي حوار أو حل سواء في سورية أو في البحرين. وعليه أرادت التحذير من تجاهلها في الترتيبات الاقليمية التي يستوجبها التغيير في سورية، فضلاً عن الانذار بأن خسارتها سورية لن تكون مقدمة لسلسلة من الخسائر. لكن ايران تعرف جيداً أن التلويح بحروب طائفية، أو بالأحرى بمواجهة سنّية - شيعية كما تحاول في سورية، لا يمكن أن تشكّل الوصفة المثلى للحدّ من الخسائر، أو حتى لتثبيت المكاسب في دول متعددة المكوّنات. لم يقتصر المالكي ونصرالله على الكلام، بل إن «حزب الدعوة» و «حزب الله» التابعين لايران سجّلا أخيراً ظهورهما على خريطة القتال الى جانب قوات النظام السوري، ويتوقع الكثير من المعارضين السوريين زيادة تدخلهما مع احتدام المعارك. فمنذ الربع الأخير لعام 2011 اعتبر النظام السوري أن حمص هي عنوان «الحسم» واستهلك نحو خمسة شهور لإنهاء القتال في حي بابا عمرو، ثم فرض حصاراً على المدينة لاستكمال السيطرة عليها. ويبدو الآن أنه سيستعين بمقاتلي «حزب الله» للضغط على القصير في الريف الغربي لحمص بغية تمكينه من اقتحام حي الخالدية وإعلان إسقاط المدينة. يضفي «حزب الله» على تدخله قناع الدفاع عن سكان شيعة أو مسيحيين موزّعين في ثماني قرى قريبة من القصير ومن الحدود اللبنانية - السورية. لكن البداية كانت داخل الاراضي اللبنانية حين راحت عناصره تراقب الحدود بحجة إقفال الطرق المعتمدة لتهريب الأسلحة، لكنها وسّعت هذه المهمة لجعل الممرات الحدودية غير آمنة للجرحى أو حتى للنازحين هرباً من القتال، وكذلك لترهيب قرى لبنانية قريبة، مثل عرسال، ذات الغالبية المذهبية السنّية. ومع الوقت ازدادت نية ربط مناطق سيطرة «حزب الله» في محيط القصير بمناطق سيطرة قوات النظام غربي حمص تأميناً للطريق الممتد من شمال غربي دمشق فحمص والملتفّ بموازاة الحدود اللبنانية وصولاً الى المنطقة الساحلية. هذا ليس مجرد مؤازرة ايرانية للنظام وتمكينه - باعتباره «السلطة الشرعية» - من حكم لم يعد قابلاً للاستعادة، وإنما فيه منحى رسم لخريطة منطقة يُشتبه بأن النظام يريدها معقلاً مذهبياً (للعلويين والشيعة) وخطاً دفاعياً متقدماً عن الجيب الساحلي، تحضيراً للمساومة على جغرافية سورية. بالنسبة الى النظام وحليفه الايراني لا مجال لتسوية سياسية قائمة على المحاصصة مع أطراف المعارضة، فإما أن يكون الحل تحت سقف النظام وبشروطه، وإما أن سورية التي نعرفها ستكون شيئاً آخر تماماً. هذا هو المطمع المشترك لإيران والنظام، وهذا هو الاختبار الأول لإيران كي تظهر وتبرهن كيف تحافظ على «المكاسب» الاستراتيجية التي استثمرت فيها كثيراً وطويلاً. والواقع أن ما يجري على الأرض يتناقض كلياً مع المناخ الدولي الذي يوحي بأن ثمة سعياً يكاد يثمر بداية حل سياسي، في حين أن المقاتلين يعرفون جيداً وعلى نحو ملموس أن تورّط ايران و «حزب الله» يجعل الحل السياسي أشبه بالمستحيل. لذا يمكن روسيا أن تتابع مساعيها إلا أنها أثبتت أن نفوذها يقتصر على تشجيع النظام على فعل ما كان اعتزمه، ولا يبدو أن لديها ما يمكنها فرضه عليه، فهي لم تفكّر اطلاقاً بوقف تسليحه، ولم يُسجّل أنها جرّبت اقناعه بوقف حقيقي لإطلاق النار، ولم تحاول اطلاق السجناء أقلّه لامتحان استجابته، كما أنها لم تبذل جهداً كافياً لفتح قنوات عمل جدي مع المعارضة، ومع ذلك تقول يومياً إن الحل في سورية لا بدّ من أن يكون سياسياً، بل تراهن على تعاون هذه المعارضة. لذلك يصحّ التساؤل عما يمكن أن يتوقعه الاميركيون من الروس واذا كانوا يعتقدون فعلاً أن لدى هؤلاء تصوراً حقيقياً لحلٍ ما، وبالتالي اذا كانوا مدركين أن خيوط اللعبة باتت موصولة بإيران وما الذي سيفعلونه في هذه الحال. وفي انتظار أن يفصحوا عن فحوى سياستهم «الجديدة» أصبحت ايران تلعب «على المكشوف»، فلم يعد مستبعداً في المدى القريب أن يُعلن صراحة عن مساهمة العراق، مثلاً، أو عن دور «حزب الله»، بل إن إيران تريد أن يذهب إعلام النظام أبعد في الجهر بنوعية أنشطته، كأن يعلن على سبيل المثال عن عمليات القصف بصواريخ «سكود» أو الإغارة بطائرات «الميغ» تأكيداً ل «حقه»، طالما أن الحرب بالوكالة في صدد أن تصبح اقليمية: النظام وإيران في مواجهة تركيا والسعودية وقطر. وفي الحديث الأخير مع «الصنداي تايمز»، بدا بشار الاسد كأنه يلبي الرغبة الايرانية، اذ قال إن سورية على مفترق وإن اللعب على هذا المفترق سيتسبب بتداعيات في عموم الشرق الاوسط. * كاتب وصحافي لبناني