نشأتُ في بيت يقوده (شاعر) وهو أيضاً كاتب وصحافي وناقد أدبي. كان الحبر والورق يملأ بيتنا وسيارتنا وجماجمنا. وفي حين كان الناس يضعون الصحف بعد قراءتها مفارش لموائدهم، كان ذلك (الأب) يوقّر (الأحبار) وما كتبت ... والأوراق وما حوت. فنشأنا نعدّ الحبر والورق ثنائية ملازمة لنا كثنائية الليل والنهار. كنا نراقب أبي إذا غاب عنا في البيت وانزوى وحده، قالت أمي: (اقصروا حسّكم، أبوكم يكتب قصيدة). لم يكن أبي محظوظاً، هو وجيله، في توافر خيارات مكانية للكتابة غير الغرفة الأقل ضجيجاً في البيت! كبرتُ وبدأت أتعرّف الى «الشخص الآخر» في أبي، حين بدأت أفهم مغزى سؤال الناس المتكرر لي: أنت ولد عبدالله بن إدريس؟ كبرت أكثر، وبدأت أتداخل مع جموع الكتّاب والمثقفين، لكني لم أستطع أن أفصل بين شخصيتيّ عبدالله بن إدريس: الأب والشاعر، مما سبّب لي حرجاً في أن أتعامل مع أبي مثلما أتعامل مع الشخصيات العامة بحرية نقدية. هذا الأمر منعني من أن أبدي إعجابي بشاعرية ومهنية أبي الثقافية مثلما أفعل مع شعراء وكتّاب آخرين. ازدادت وطأة الحيف والخوف من لمز المجتمع لو مدحت أبي، عندما اتجهتُ خصوصاً في العقدين الأخيرين إلى الكتابة عن الشخصيات في ما يشبه السيرة الذاتية (بيوغرافي)، وهي ما أخرجتُ معظمها في كتابي (حكايات رجال). كان لا بد حينها أن أكسر الحواجز التي ربما كانت وهمية أكثر منها حقيقية، وأن أكتب عن أبي الشاعر والناقد والصحافي المقدام. فعلتها مرة أو مرتين على استحياء، ثم كسرت الحاجز كله وكتبت المقدمة «الدراسية» عن الشاعر عبدالله بن إدريس، ووضعتها في مطلع كتاب (الأعمال الشعرية الكاملة) لأبي، التي تشرفتُ بمتابعة مجريات جمع قصائدها وإصدارها قبل عامين. أكتب هذا اليوم بعد الاحتفالية التي أقيمت قبل البارحة بمناسبة صدور (السيرة الذاتية) للأديب والشاعر الكبير عبدالله بن إدريس، وذلك وسط حضور حشد من المثقفين والإعلاميين والمسؤولين. السيرة الذاتية التي وصفها أبي، يحفظه الله، في كلمته أمام الحضور بقوله: «السيرة الذاتية ليست وثيقة أمجاد فحسب، ولا ينبغي لكاتبها أن يجعلها كذلك، إذ تتحول حينها من بشرية إلى ملائكية. السيرة الذاتية الحقيقية والصادقة هي خليط من الإنجازات والإخفاقات، والمنغصات التي يمر بها كل من يريد أن يضع بصمة في هذه الحياة، وأرجو أن أكون قد نجحت في ذلك». يا أبي الغالي، بمنتهى الحياد والشجاعة، أقول لك: اطمئن فقد تركتَ بصمة في هذه الحياة. ليس هذا رأيي فقط، بل رأي كبار الثقافة العربية كالعقاد وطه حسين والزيات وبنت الشاطئ ونازك الملائكة وحمد الجاسر وغيرهم ممن أثنوا على كتابك الرائد: (شعراء نجد المعاصرون) الذي صدر عام 1960 كأول كتاب نقدي مطبوع في نجد، وأنت حينها في عمر 33 عاماً فقط!، كيف بهم لو رأوا ما صنعتَه بعد ذلك من شعر ونثر ونقد، حتى وصلتَ مشارف التسعين الآن، بعمر مديد بإذن الله. إذا كان ابنك قد تفاجأ بما حوته سيرتك الذاتية من أعمال وأحداث ومغامرات، فكيف سيكون وقع المفاجأة على الآخرين؟! أبي الغالي؛ هنيئاً لك المحبون، في احتفالية أمس الأول، من أصدقائك وطلابك وأحبابك. واعذرني على هذه المدائحية التي لن تروق لك، لكن إذا لم يفتخر أبناؤك بك فبماذا يفخرون؟! * كاتب سعودي twitter | @ ziadaldrees