سيظل العالم على كف عفريت، وهذا معنى تؤكده الصراعات البشرية التي لا تكل عن التكرر بكل الصيغ الممكنة والمتخيلة كذلك، ولا شك أن الخيال يلعب دوراً كبيراً في صناعة النظرية الحربية، ويكفي أن نقرأ الأشعار سابقاً، وننظر في سينما هوليوود حالياً، وكلها تفيض بالرغبة العميقة للذات البشرية في أن تهيمن على غيرها وتبتكر كل السبل إلى ذلك الهدف الشرير. ولكن العالم اليوم صار أيضاً على: كف شاشة. وهذه نتيجة ثقافية تساعدنا على معرفة الواقعة البشرية (الثقافية تحديدا) بصورة أيسر وأوضح من ذي قبل. والشاشات الثلاث (النت والجوال والفضائيات) وهي المفتوحة والميسورة اليوم صارت تكشف لك الكون كله، الخاص منه والعام كذلك، حتى صارت الحكمة الثقافية تقول: إذا كان بيتك من زجاج فلا تستحم، والبيوت اليوم كلها صارت زجاجاً، والكل مكشوف، وهذه فرصة علمية كبيرة من أجل قراءة المصطلحات والنظريات التي تدير شأن العلاقات البشرية. إنك مع الكتاب الأوروبي تستقبل النظرية مكتوبة ومبحوثة وتستقبلها مطبقة ومنفذة على الأرض وكذلك تستقبلها منقودة بقراءات واقعية مبنية على حالة التجريب بوصفه امتحاناً للصدقية وكذلك لما تحمله وجوه التطبيق من انحرافات ومن توظيف يستثمر النظرية لتحقيق أغراض غير نظرية وغير فلسفية وغير بحثية، ولكنها شأن بشري في لعبة النسق الثقافي حيث تنحرف المعاني بحسب مضمرات الرغبات غير المعلنة، ولكنها رغبات جذرية ومصيرية. * على أن إخضاع المعاني العليا للعبة النسق الثقافي هو مظهر ثقافي بشري وكوني وأزلي، ولن نتعرف عليه إلا عبر مشاهدة حية له وهو يحدث، وهنا سنجد أن أوروبا تقدم لنا مشهداً ثقافياً حياً وحيوياً نرى فيه الثلاثية الثقافية: النظرية/ التطبيق/ نقد النظرية، وكلها في نظرة عين واحدة على كف شاشة لا مواربة فيها. سنرى النظرية الليبرالية، سواء الليبرالية التقليدية أم الليبرالية الجديدة كما هو اسمها، سنراها كما هي في بطون الكتب وكما هي في الواقع حيث صارت أحزاباً تتسمى بهذا الاسم، وسنراها كما هي في الخطاب النقدي، وكما يقدمها باحثون غربيون عاشوا الحدث وخبروه في معاشهم اليومي ثم نظروا فيه نظرات نقدية. ولن نجد مثل هذه الفرصة التاريخية حين تكون النظريات ماثلة أمامنا ومكشوفة لا بوصفها توقاً بشرياً فحسب، ولكن أيضاً بما إنها سياسات مطبقة وبما إنها خطاب منقود. * تقع المصطلحات والنظريات في مأزق التوشيم (المصطلح الموشوم) وفي هذا الكتاب سياحة تشريحية نقدية لقراءة مسار النظريات والمقولات الأساسية في النظام المعرفي والأخلاقي البشري في العدالة والحرية والمساواة والتعددية الثقافية في مرحلة من الواضح أنها مرحلة (ما بعد العولمة)، ويبرز فيها مقولتان هما مقولة الوسطية ومقولة الليبرالية من حيث قيام كل منهما على المبادئ الأساسية الأربعة: العدالة... إلخ، ومن حيث حالة التطبيق ثم حالة النقد الذاتي لليبرالية خصوصاً. وهنا نحن لا نقرأ شيئاً أجنبياً عنا ولكننا نقرأ أنفسنا بما أننا نرى كيف تقوم النظريات كمعنى فلسفي وكيف تدخل في المعاش اليومي للبشر ثم كيف تتكشف ألاعيب التنسيق لها ومن ثم توشيمها، وهذه كلها سياحة ذهنية وسياحة عملية في قراءة المصطلح وتشريحه وطرح الأسئلة عليه، وهي قضية هذا الكتاب. التفاوضية الثقافية: وفي النهاية سنطرح مقولة نظرية هي ما أراها كإجابة على الأسئلة كلها، وهي مقولة التفاوضية الثقافية وقد شرحت وجهة نظري فيها في ختام الفصل الخامس، حيث تقوم التفاوضية الثقافية على نظرية العدالة بركنيها: الحرية والمساواة، وهي مصطلحات ثلاثة يبني بعضها بعضاً في قياسات ثقافية تفاوضية، تعتمد التعددية الثقافية ونظرية العيش المشترك بشرياً ومعرفياً. * مقدمة كتاب «الليبرالية الجديدة» الصادر حديثاً ويوجد في جناح المركز الثقافي العربي.