لا تصح مقارنة الحالة السورية في الخمسينات والستينات بما تشهده البلاد اليوم، ومن الخطأ استحضار مناخات لعبة الأمم والقول بعودة الصراع على سورية وتحميل الثورة المسؤولية، ففي ذلك تنكر لخصوصية وأسباب ما يحدث وإهمال لما حصل من مستجدات إقليمية وعالمية خلال عقود. صحيح أن لهذا البلد فرادة يستحقها وموقعاً مفصلياً في منطقة حساسة من العالم لم تعرف الاستقرار بسبب التنافس الشديد للهيمنة عليها بين أطراف إقليمية ودولية، وبسبب التحديات التي خلقها تنامي الدور الصهيوني وأخطاره بعد قيام دولة اسرائيل في 1948، وصحيح أن الانقلابات العسكرية التي حصلت وتناوبت على السلطة منذ الاستقلال عام 1946 كانت محصلة لصراع القوى العربية والعالمية للسيطرة على سورية والتحكم بموقعها وسياساتها، إنْ بين القوى العربية، أو بين أميركا والاتحاد السوفياتي... وصحيح أن السلطة في العقود الأخيرة نجحت في نقل البلاد من ساحة نزاع وملعب لمشاريع الآخرين واختباراتهم إلى لاعب رئيس في المنطقة، وبات لها نفوذ ودور يتجاوزان حدودها في ملفات عديدة، أهمها فلسطين ولبنان. لكن الصحيح أيضاً أن انحسار الدور الاقليمي للنظام كان سابقاً للثورة ربطاً بتداعيات الاحتلال الأميركي للعراق وإزاحة الغطاء الدولي عن النظام، ثم إجباره على سحب قواته من لبنان، ومحاصرة تأثيره بالورقة الفلسطينية، ومن دون شك زادت الطين بلة حالة الضعف والإنهاك التي وصلت اليها البلاد بفعل العنف السلطوي المفرط، وليس بفعل الثورة ورياح التغيير التي هبّت على المنطقة وشجعت الأكثرية المهمشة والمهانة على كسر حاجز الخوف والمطالبة بحريتها وكرامتها. نهضت الثورة السورية كحركة سلمية، والأوضح أنها بدأت بكل تفاصيل تطورها بدءاً من مظالم أطفال درعا، كمسألة داخلية لا علاقة لها بأية أبعاد إقليمية أو دولية، واستمرت لشهور عديدة كأنها تواجه مصيرها وحيدة أمام آلة قمع لا تعرف هوادة، قبل أن تتقدم الاجتهادات الخارجية على شكل نصائح ومبادرات لمساعدة النظام اساساً على تجاوز أزمته، وقبل أن تصل الأمور إلى الجامعة العربية وتفشل مبادرتها وقبل أن يوضع الملف في عهدة الأممالمتحدة ومجلس أمنها، حيث اتضحت مواقف القوى المساندة للسلطة كروسيا والصين وإيران ومن يدور في فلكها، في مقابل قوى انحازت بعد سلبية وتردد وتحت وطأة الضغط الأخلاقي لما تخلفه آلة الفتك والدمار من مآسٍ، نحو دعم مطالب الناس وحقوقهم، كالدول الغربية وتركيا وأكثرية الدول العربية، ما فتح الباب على مصراعيه أمام من يرغب من الأطراف الاقليمية والعالمية لاستثمار هذه الساحة في معارك النفوذ ولتحسين الحضور والموقع في المنطقة، ولكن بداهةً ليس على غرار ما كان يحصل قديماً. في الماضي ارتبطت مقولة الصراع على سورية بالدور المتعاظم للجيش في الحياة السياسية وبتواتر الانقلابات العسكرية التي حرّكتها مطامع القوى الكبرى في السيطرة على هذا البلد من دون الأخذ في الاعتبار مصالح شعبه وطموحاته. لكن المشهد تغير اليوم، وها نحن نعيش ثورة تسعى إلى رد الحقوق للناس وتمكينهم من تقرير مصيرهم وإدارة شؤونهم، بما هو تصدٍ لمطامع الدول الكبرى، ما يشجع على تأكيد أن الصراع المحتدم في سورية بما يرافقه من مواقف واصطفافات معلنة لقوى إقليمية ودولية مع أحد أطرافه، ليس صراعاً عليها، بل صراع نفوذ غدت سورية ساحة مكشوفة له، والأهم أنه صراع من اجل مستقبل ديموقراطي واعد، بين قطاعات واسعة من الشعب عانت الأمرّين من القمع والاضطهاد وتطالب بالتغيير وبحريتها وكرامتها المهدورة، وتتحسب أيضاً من نيات الآخرين ومطامعهم، وبين سلطة توغلت إلى نهاية الشوط في القهر والفساد والتمييز، ولم تتردد في استخدام كل وسائل العنف واستجرار أي دعم خارجي للدفاع عن بقائها وامتيازاتها. غير ذلك هو ترويج- عن قصد أو من دونه- لما يسمى «نظرية المؤامرة» التي دأبت أجهزة السلطة على ترويجها لإشغال الناس بالأخطار الخارجية والتهرب من الاعتراف بمسؤوليتها عن تفاقم أزمات المجتمع ومشكلاته... وأيضاً هو استهانة بالثورة القائمة وبأسباب نهوضها وطعنٌ بوطنية الشعب السوري وبما قدمه من تضحيات لا تقدر بثمن، كي يأخذ قضيته بيده ويضع الحجر الأساس ليس لانتزاع حريته فحسب، وإنما أيضاً استقلاله وسيادته الوطنية. إن الاستبداد المزمن وتغييب دور الناس وحرمانهم من حقوقهم، هي شروط تخصّب التربة الحاضنة للصراع على بلد ما وللسيطرة عليه، بينما تغدو هذه التربة عقيمة قاحلة في حال شيوع الديموقراطية وتقدم إرادة المجتمع في تحديد خياراته. والمعنى أن حوافز الثورة السورية وغاياتها هي حوافز وغايات داخلية ونتاج أزمة بنيوية متفاقمة طيلة عقود، وأن معالجتها هي ما يعزز مناعة هذا البلد ومقاومته لمطامع الآخرين وليس العكس. ولا يغير هذه الحقيقة أن يساند بعض الجهات الاقليمية أو الدولية هذا الطرف أو ذاك من أطراف الصراع، سعياً وراء مصالحها وأهدافها الخاصة. إن الشعب السوري يدرك مدى المسؤولية التي يتحملها النظام في فتح الباب أمام التدخلات الخارجية، عندما اعتمد منذ اللحظة الأولى القوة المفرطة، وأنكر الأسباب الحقيقية للأزمة وطرق معالجتها سياسياً، وصمّ أذنيه إزاء كل الدعوات إلى إبقاء الحل في الاطار الوطني ثم في الإطار العربي، قبل أن يغدو رهين العجز الدولي. وهو يدرك أيضاً أنه لن يكون بعد نجاح ثورته صفراً أو نكرة، وأنه بتحرره وخروجه من القمقم وأخذ قضيته بيده، سيكون وحده القادر على منع تحويل بلده الى ساحة لصراعات الآخرين، ويدرك تالياً أنه مثلما أسقط في الماضي العديد من الأحلاف والمشاريع الاستعمارية، قادر بعد ثورته ونيل حريته على إجهاض كل محاولات السيطرة والهيمنة على مقدراته، وعلى تمكين بلده من احتلال مكانه اللائق، سياسياً وثقافياً واقتصادياً، في سلم الحضارة الانسانية.