لم يعد من باب التهويل القول إن شبح الحروب الأهلية بات يلوح في الأفق في غير مجتمع عربي، وأن عبارات التطمين التي درج استخدامها من جانب الفرقاء المتصارعين بأن الاقتتال الداخلي هو خط أحمر أو واحد من المحرّمات صارت موضع شك أمام ازدياد التأزم السياسي واحتقانه، وأمام المحاولات المحمومة لنثر بذور التفرقة والفتنة وتفكيك اللحمة الوطنية لمصلحة بنى متخلفة لجماعات بعينها ومطامع لقوى بعينها على حساب الثقة بالدولة ومؤسساتها ودورها العمومي. ونظرة سريعة إلى اندفاع الصراع السياسي في العراق واليمن والسودان وفلسطين ولبنان تدل بالفعل على مسار خطير ينذر بتدمير مقومات الحياة المشتركة ويدفع البلاد نحو هاوية اقتتال أهلي يستمد خطورته من عوامل كثيرة لا تزال حاضرة وفاعلة ومهددة، منها تراجع سلطة الدولة واهتزاز الثقة بمؤسساتها، ومنها ارتهان الخلافات الداخلية لمصلحة قوى خارجية ومنازعاتها، ومنها تنامي روح التعبئة الاقصائية وثقافة مشبعة بلغة القوة والعنف. وإذ تصح الأفكار القائلة بأن للدولة في المجتمعات التعددية الدور الأساس في بناء الوطن والهوية الوطنية وأن نشأة الأوطان في مسارها التاريخي إنما صنعتها إرادة سياسية واعية عززت خيار الدولة وأذكت روح المواطنة والمساواة وشجعت الجماعات المتباينة ثقافياً على الاندماج وتمكين الانتماء المشترك والتقليل من أهمية عوامل التفارق والاختلاف أو إزالتها، فإن فرص نجاح هذه الأفكار تبقى ضعيفة وربما معدومة في ظل غياب المؤسسات الديموقراطية واستئثار البعض بالسلطة السياسية وفشل مشاريع التنمية أو التحيز في تنفيذها جراء التمييز بين الناس وعدم الاعتراف بحقوق متساوية لمكونات المجتمع المختلفة. والحال بدل أن تكون الدولة غاية ومحط إجماع لتعزيز الروح الوطنية ولإدارة الخلافات سلمياً بين شرائح متباينة المصالح، تصبح درئية للتصويب والتشويه، ويرفع البعض دورها إلى أعلى المستويات أو يخفضه إلى الأدنى تبعاً لما تتطلبه مصلحته الخاصة وليس المصلحة الوطنية العليا. وبمعنى آخر بدلاً من أن تقوم الدولة بوظيفتها الأولى وهي احتكار القوة المسلحة والعنف الشرعي لضمان أكبر قدر ممكن من الأمن للمجتمع والعدالة لمواطنيها، فإننا نشهد، وبدرجات مختلفة ولأسباب مختلفة، حضور مجموعات سياسية أو قوى طائفية ومذهبية هي ما دون الدولة، لكنها تسوغ لنفسها إنجاز مهام الدولة وتعتبر ما تقوم به هو الشرعية، ترفض الخضوع للسلطة العمومية وتتحفز لتعميم منطقها على المجتمع ككل إن من خلال اللعبة السياسية وإن باستخدام لغة القوة والتهديد. من جهة ثانية يعزز خطورة ما يجري دور العامل الخارجي ومدى ارتباط أطراف داخلية بسياسات المحاور في المنطقة، وما يترتب على ذلك من حسابات تتجاوز المصلحة الوطنية وتجر بعض الجماعات إلى مواقف تغفل حقيقة الظروف الخاصة التي تعيشها بلدانها، وليس خافياً على أحد حضور مشاريع إقليمية ودولية في اللحظة الراهنة تفرض على بعض القوى المحلية في أكثر من مجتمع عربي اختيارات ومواقف سياسية تأتي غالباً على حساب المصلحة الوطنية. وما يزيد الطين بلة ضعف النظام العربي وانحسار دوره، وأيضاً عجز الدور الأممي عن حل أهم بؤر التوتر في المنطقة وهي القضية الفلسطينية، ليبدو استقرار الشعوب العربية ومستقبلها هو الضحية الأولى لصراعات الهيمنة على المنطقة وللتعنت الصهيوني بينما تقطف السلطات ثمار ذلك بتأبيد تسلطها ويغدو دعاة التعصب والإرهاب أكبر الرابحين. وفي المقابل يحلو للبعض تبرير هذه الصراعات بأنها ممر للخلاص ولمعالجة الأزمات القائمة أو مخاض لا بد من أن تمر به بعض البلدان المتخلفة لبناء الوطنية الحقة وتطهير المجتمع مما هو مشوه وزائف، لكن اليوم ونحن نرى النتائج المؤلمة وما يرجح أن تفضي إليه هذه السياسات من تدمير وتفكيك للمجتمعات، يتضح عبث هذا المنحى وخطورته وكأنه نافذة للجحيم وليس للخلاص. فهل من أهداف مهما علا شأنها يمكن أن تبرر اندفاع أبناء الشعب الواحد لقتل بعضهم البعض؟ وهل من دوافع مهما منحت من قدسية وغلفت بشعارات براقة يمكن أن تفسر هذه الشحنة الهائلة من الحقد والكراهية التي يتم نشرها وتعميمها بين الناس ليغدو دم صديق الأمس مباحاً ودم الجار مهدوراً؟ وللأسف عوض أن تعرف المجتمعات الضعيفة والمنكوبة حالة من الاحترام المتبادل والتعاون بين مختلف القوى الاجتماعية والفعاليات السياسية لضمان حظ أفضل لها من التنمية والتطور ومن المنافسة أمام المجتمعات الأخرى، تصدمك مظاهر ازدراء الآخر وتحقيره ونوازع الاستئثار والوصاية على الناس وتسويغ كل الوسائل بما فيها التهديد والترهيب والقتل لتحقيق ذلك! فهناك شرخ كبير لا يزال قائماً بين حلم الوطن الديموقراطي الجامع وبين الواقع، ويبدو أن لا خير يرتجى في معالجة الأزمات الراهنة ووقف التدهور، ما دام ثمة جماعات لا تزال تشجع اندفاع البشر نحو ملاذات متخلفة، طائفية أو مذهبية أو عشائرية، لتسهيل السيطرة عليهم، وما دام ثمة قوى لا يهمها سوى امتيازاتها الخاصة، تختزل الموقف الوطني في مقدار النفوذ الذي تحققه في توازنات السلطة، مستقوية بخيارات إقليمية مفتوحة على صراعات لا تنتهي، ومنتهزة فرصة تراجع دور الدولة وحالة من السلبية لا تزال تسم سلوك الناس وتدفع قطاعات واسعة منها للاصطفاف في شكل أعمى وراء هذا الطرف أو ذاك. لم يخل تاريخ المجتمعات البشرية من العنف والحروب الأهلية بما فيها أرقاها اليوم وأكثرها ديموقراطية قبل أن تكتشف أن طريق الاقتتال والإقصاء ورفض الآخر هي طريق لا أفق لها، مملوءة بالآلام ومدمرة، ويبقى السؤال هل ستذهب بعض الجماعات المغرقة في أنانيتها إلى جر مجتمعاتها إلى دورة الآلام ذاتها كي تصل إلى تلك النتيجة وتقتنع بأن أي مجتمع لا يمكن أن يعيش ويزدهر من دون تبادل المصالح والتنازلات واحترام حقوق الناس والتنوع والاختلاف. وهنا لا يصح القول إن لا فرصة أمام المجتمع لينأى بنفسه عن حرب أهلية مجانية سيكون الجميع فيها خاسراً والرابح الوحيد هو الدمار والخراب. فثمة دور للناس والنخب الوطنية للوقوف ضد ما يدبر، على الأقل بإشهار رفضها منطق الاستئثار والوصاية ولغة العنف والقوة، والأهم الالتفاف حول خطاب موضوعي يحرج الأطراف المتصارعة ويضغط على خياراتها، ولعلها تشكل «بارقة أمل» المبادرات الأخيرة لبعض منظمات المجتمع المدني في العراق ولبنان للاحتجاج على ما يجري وإيجاد أشكال من التواصل والحضور لتعزيز روح المواطنة واسترداد حيوية المجتمع ودوره في محاصرة الاندفاعات الهوجاء وتغذية الاستعداد لتقديم التنازلات المتبادلة لمصلحة روح التعايش والتوافق وحماية السلم الأهلي! * كاتب سوري