التأسيس وتحقيق رؤيتنا المثلى    الشيباني: حكومة جديدة "تراعي التنوع" مطلع الشهر المقبل    ترمب ينفذ وعوده الانتخابية بعاصفة أوامر تنفيذية    تعزيز التعاون بين اتحاد الكرة و«الفيفا»    نيوم يعزز صدارته ل«يلو» ويلاعب جدة غداً    تعليم ترفيهي    المنتدى السعودي للإعلام يناقش مستقبل الإعلام وفرص الاستثمار    استثمار الثقافة في المملكة.. يحقق نهضة إبداعية مستدامة    حراسة النفس    لائحة التصرفات الوقفية هي الحل    أمير جازان يبحث احتياجات أهالي محافظة هروب    بدر بن فرحان: المملكة تؤمن بأهمية الثقافة بصفتها ركيزة في بناء المجتمعات وتعزيز الهوية الوطنية    وزير الدفاع الأمريكي: حلفاء واشنطن ينتظرون خطة دعم أوكرانيا    التعاون يكتفي بالتعادل بهدفين مع الوكرة    مدرسة الملك عبد العزيز الابتدائية والمتوسطة تحتفي بيوم التأسيس    بدر شهر شعبان يزين سماء المملكة    هل تنسحب إسرائيل من جنوب لبنان خلال المهلة المحددة؟    فيصل بن بندر يكرم المبدعين    التعاونية للتأمين وتطبيق Blu يوقعان اتفاقية شراكة استراتيجية    أخضر الكرلنغ يخسر أمام اليابان    غرفة ينبع تنظم ورشة عمل حول الخدمات اللوجستية في مطار الأمير عبدالمحسن    بعد استفزازه.. «فينيسيوس» يسخر من جماهير مانشستر سيتي بال«15»    الجوف: ضبط مقيم مخالف لنظام البيئة بحوزته حطب محلي معروض للبيع    «إنفست»: معدلات التضخم في الخليج تتراجع    ضبط شخص في الشرقية لترويجه (11,580) قرصًا من مادة الإمفيتامين المخدر    أمطار رعدية على معظم المناطق    5.5 ملايين سند عالجتها منصة نافذ    اختتام أعمال الاجتماع التاسع للجنة التوجيهية لشبكة العمليات العالمية لسلطات إنفاذ القانون المعنية بمكافحة الفساد    «الداخلية» تستعرض طائرة دون طيار لحماية البيئة بمؤتمر ليب التقني 2025    تعاون بين جمعية الزهايمر والولاية على أموال القاصرين    المعارضة: نتنياهو يريد إغراق إسرائيل في الدم    سلمان بن سلطان يتسلم وثيقة اعتماد المدينة أول صديقة للتوحد    سوريا تشكل لجنة تحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني    الحقيل: 140 مليار ريال استثمارات تطوير الضواحي السكنية    اللواء المربع يشهد حفل تكريم المتقاعدين من منسوبي الجوازات    فريق تقييم الحوادث باليمن ينفي قيام التحالف باستهداف عدد من المنازل والمباني    الأطفال الإعلاميون في حضرة أمير الحدود الشمالية    محافظ الأحساء يكرّم الفائزين بجائزة تميّز خدمة ضيوف الرحمن    وفود العسكريين يزورون مجمع الملك فهد لطباعة المصحف    كانسيلو على رادار مانشستر يونايتد.. هل يوافق الهلال على بيع اللاعب؟    جامعة الملك عبدالعزيز تحتفل بتخريج الدفعة ال ( 54 )    الأردن: لا توطين.. لا تهجير.. ولا حلول على حسابنا    سلمان بن سلطان: القيادة تولي اهتمامًا بتنمية المحافظات    المملكة 11 عالميًا والأولى إقليميًا في المؤشر العالمي لسلامة الذكاء الاصطناعي    فنانة مصرية تتعرض لحادث سير مروع في تايلاند    مجلس الوزراء برئاسة ولي العهد يؤكد : رفض قاطع لتصريحات إسرائيل المتطرفة بتهجير الفلسطينيين    أمير القصيم يكرم 27 يتيمًا حافظًا للقرآن    مملكة الأمن والأمان    القيادة تهنئ الرئيس الإيراني بذكرى اليوم الوطني لبلاده    رأس اجتماع لجنة الحج والزيارة بالمنطقة.. أمير المدينة: رفع مستوى الجاهزية لراحة المصلين في المسجد النبوي    أمريكية تفقد بصرها بسبب «تيك توك»    «حملة أمل» السعودية تعيد السمع ل 500 طفل سوري    بعض نقاط التمييز بين اضطرابات الشخصية    ما بعد الإنسانية    صندوق الاستثمارات العامة شريكاً رسمياً لبطولة السعودية الدولية للسيدات للجولف    «المحتوى الشبكي».. من التفاعلية إلى الاستقطاب!    أوغندا تسجل إصابات بإيبولا    الاستحمام البارد يساعد على النوم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد مصطفى المراغي وسياسات الإصلاح الإسلامي
نشر في الحياة يوم 02 - 03 - 2013

كان آيةً في الذكاء، وروحاً فتيَّةً في النبوغ، ونشاطاً متواصلاً في البحث، والعمل، من أجل التجديد الديني الشامل، وتطوير الأزهر الشريف، وطريقة التدريس فيه، فحارب الجمود، ووقف في وجه الاحتلال والفساد، ونادى بضرورة إصلاح الأزهر، ومدِّه بجسور العلوم الغربية الحديثة، فأحدث أكبر نقلةٍ نوعية في تاريخ المشيخة، وشارك في كل القضايا الكبرى في مصر، وفي غيرها من بلاد العرب والمسلمين، حتى صار صوتاً للحق في وجه الظالمين، وكان المُطَبِّق الأمين لمبادئ وتعاليم الأستاذ الإمام محمد عبده، برويَّةٍ وأناةٍ ومَهَل. وأشعل جذوةَ العلم في كل مكانٍ حطَّ رِحاله فيه، فقضى على البِدَع والخرافات في السودان، وطوَّر مناهج التدريس والبحث هناك، وأدخل دراسة الفقه على المذاهب كافة، بلا تعصُّبٍ، ولا ادِّعاء، وأحدث تطويراً شاملاً في القضاء الشرعي، وفقه الأسرة على الإجمال، حتى صدقت فيه مقولة العلماء: إن الشيخ المراغي (1880 - 1945) هو إمام الدنيا والدين.
في مرآة التاريخ
قال عنه الشيخ عبدالجليل عيسى: «لن ينسى الأزهرُ أبداً شيخَه المراغي، وكيف ينسى الأزهرُ شيخاً، وضع على رأسه تاجاً وهّاجاً، أضاء ما بين المشرق والمغرب». وقال عنه صديقه محمد كرد علي: «لقد اشتُهِرَ، لأنه كان حريّاً بالشهرة، جمع إلى الفقه والأصول ما تُعْوِز العالم معرفته، من أصناف العلم، وصديقنا المراغي خُلِق عالماً، امتاز بمرونته، وما كان فيه جمودُ مَن أخملتهم التقية، وما اتسعت صدورهم إلَّا لِما رووه عن مشايخهم، أو وقفوا عندما قرأوه في الكُتُب، وما عبّأوا بسواه. نظر، وهو في سِنِّ الطلب، في علوم لم تدخل برنامج الأزهر، وشعر بفساد طريقة المشايخ في تدريسهم، وشارك في الشكوى من الشروح، والحواشي، والهوامش. وكان بمقدار ما يُعْنَى بالأخذ عن شيوخه، يعتمد على درسه الخاص، وبمقدار ما كان يدأب على تحصيل دروس الأزهر، يسمو به الشوق إلى الاطِّلاع على ما في علوم الغربيين، من متاعٍ للروح والعقل، وقد قيل: إنه تعلَّم اللغة الإنكليزية - أيامَ كان في السودان قاضياً - وأصبح يفهم الكُتُب العلمية فيها، وأنه قرأ ترجمة مير للقرآن باللغة الإنكليزية، وكان يُصَحِّح ما وقع من غلطٍ في الترجمة الإنكليزية. نعم، لم يُقّيِّد الشيخ المراغي نفسه باعتبارات الأزهريين كثيراً، شأن بعض النوابغ، يشذون أحياناً عن مصطلح قومهم، ويكون الخير في هذا الشذوذ.
وقال عنه الشيخ محمود شلتوت: «إن الإمام المراغي ما خرج بروحه وعلمه وعقله وتفكيره عن أن يكون تلميذ الأستاذ الإمام محمد عبده». وقال كرد علي عنه أيضاً: «لقد أجمع أنصار المراغي وخصومه على أنه كان من خير من تولى مشيخة الأزهر، لصفات كثيرة اجتمعت له، وقلَّ أن تجتمع لغيره، ذلك لأنه كان يعرف ما هنا وما هنالك، ويُعدُّ من العلماء العارفين بأزمانهم معرفةً ثاقبة، ذات مرة، طُلِبَ إليه أن يترك رياسة الأزهر، ويُعطَى ما شاء من الأفدنة والمال، فأبى، ومرة أخرى، طُلِبَ إليه أن ينضم إلى حزب سياسي، ويكون له ولأولاده ما شاء من الكرامة والجاه، فأبى، وقال: إن أولادي وإخوتي في نظري أقلّ من أن أبيع لهم كرامتي».
وذات مرة، سأل الإمامُ محمد عبده - أحدَ الصحافيين: هل رأيتَ ما تنشره جرائد خصومي من صور تُمَثِّل الأزهرَ بعد خروجي منه؟ قال: كلّا. فقال الإمام: هم يُصوِّرون الأزهر وقد تفتحت من بعدي أبوابه ونوافذه، فخلص إليه الهواء، وسرى فيه الضياء، وانجابتْ عنه الظلماء، وملأت رحابه ملائكة السماء، كأنما يحسب أولئك القوم أنَّ استقالتي من الأزهر مَحَتْ كل أثرٍ لي فيه، ولقد أخطأوا، فقد ألقيتُ في الأزهر قبساً، إنْ لمْ يشتعل الآن، فإنه سيشتعل بعد عشرين أو ثلاثين عاماً». وعلَّق الشيخ مصطفى عبدالرازق على هذه النبوءة - أثناء حضوره حفلة تكريم الشيخ المراغي في الأربعينات - قائلاً: «فقد خيِّل إليَّ أنني أرى اليوم ذلك القبس الذي ألقاه الشيخ محمد عبده في الأزهر منذ ثلاثين عاماً، قد أخذ يشتعل اشتعالاً، لينشر في العالم نوراً. نعم، لو جاء المراغي في جو صافٍ، ووسط خالٍ من غبار الجهالة، وشوائب التخريف، لكانت سرعة قفزاته تفوق سرعة الضوء، لكنه بدأ إصلاحه والجو ما زال يشوبه كثير من عوائق الجمود على القديم، والنفور من كل جديد مهما كان صالحاً، فأثقلتْ تلك العوائق كاهله، وبطَّأتْ من قوة سيْره». ولقد ذُكِرَ أمام الشيخ المراغي، يوماً بحال العرب والمسلمين، وما صاروا إليه، وهل يمكن أن يُجمع شملهم؟! فقال: مع كل هذا، فإني لا أيأس، فقد يُلقِي الإنسانُ في البحر عوداً، فيؤلِّف جزيرةً مما يجتمع حوله من الأعواد، وأنا سألقِي اليوم هذا العود، ولا يهمني بعدُ أن تجتمع الجزيرة في يومي أوْ يوم غيري». وعلَّق الشيخ مصطفى عبدالرازق - على هذه المقولة أيضاً، قائلاً: «فعلاً، لقد ألقى الإمام المراغي في اليم أعواداً وأشجاراً، وتمكن من وضع الأسس، وأرساها، ثم دفع عجلة الإصلاح بقوة، وها هيَ ذي سائرة إلى الأمام، وإنْ أبطأتْ قليلاً، فإنها لنْ تقف أبداً، وليس في استطاعة مخلوقٍ بعد اليوم أن يقف في طريقها إنْ شاء الله». كان الشيخ المراغي حنفيَّ المذهب، لكنه كان يأخذ من المذاهب الأخرى ما يُناسِب العصرَ والمصلحة، قائلاً: «ائتوني بما ينفع الناسَ، وأنا آتيكم بالدليل».
إمام التجديد والتقريب
وكان - كما يقول كُرد علي: كثيراً ما يقول للجنة الأحوال الشخصية، عند البحث عن الهِبة، والوصية، والوقف: «ضعوا من المواد، ما يبدو لكم أنه يوافق الزمانَ والمكان، وأنا لا يُعْوِزني بعد ذلك أن آتيكم بنصٍّ من المذاهب الإسلامية، يُطابِق ما وضعتم». ومما دلَّ على علو كعبه في حرية البحث، فتواه في جواز ترجمة معاني القرآن، وله في هذه المسألة الشائكة، بحثٌ ممتع نُشر في مجلة الأزهر، وفيها طائفة من تفسيره لبعض سور الكتاب العزيز، وبعض خطبه، وآرائه، وفيها فتاواه في المُعضلات، وهي تدور على تقريب الناس من الشرع، والتوفيق بين الدين والمدنية، ويبدو فيها نور العقل والتجدد.
ومن رأيه - وفق كلام كرد علي: توحيد المذاهب، وقال في إحدى مذكراته: «يجب العمل على إزالة الفروق المذهبية، أو تضييق شُقَّة الخِلاف بينها، فإن الأمة في محنة هذا التفريق، ومن العصبية لهذه الفِرَق... ومعروفٌ لدى العلماء، أن الرجوع إلى أسباب الخلاف ودراستها دراسةً بعيدةً من التعصب المذهبي، يهدي إلى الحق في أكثر الأوقات، وأنَّ بعض المذاهب والآراء قد أحدثتها السياسة، في القرون الماضية، لمناصرتها، وخلَّفتْ في أهلها تعصباً يساير التعصب السياسي! ثم انقرضتْ تلك المذاهب السياسية، وبقيتْ تلك الآراء الدينية، لا ترتكز إلّا على ما يصوغه الخيال، وما افتراه أهلها! وهذه المذاهب فرَّقتْ الأمة، التي وحَّدها القرآن الكريم، وجعلتها شِيَعاً في الأصول والفروع».
وقال الإمام المراغي في شأن دراسة التفسير والحديث النبوي: «يجب أن يُدْرَسَ القرآن دراسةً جيدةً، وأن تُدرَس السُّنَّةُ دراسةً جيدةً، وأن يُفهما على وفق ما تتطلبه اللغة العربية، وقواعد العلم الصحيحة، وأن يبتعد في تفسيرهما، عن كل ما ظهر للعلم بطلانُه، وعن كل ما لا يتفق مع قواعد اللغة العربية»! وكان يرى أن «الشريعة جاءت لخير البشر، وما دسَّه فيها بعضُ المتأخرين بجهلهم، أو تساهلهم، يجب أن يُنَقَّى منها، كما يُنقَّى الزؤان من صوبة الحِنطة! وهناك أمور ينبغي أن يترفَّق فيها الفقهاءُ بالناس، وأن يُراعوا قواعد اليسر، التي هي أخصُّ صفات الإسلام، يُراعونها في العُمّال، والمرضى، ومن يخدم المرضى، ومن يُشابههم، فيُقرِّبون الناس من الإسلام، ولا يُوقعونهم في الحرج».
على أن الشيخ المراغي كان - بلا جدالٍ - مصلحاً دينياً، أهاجَ العقليات الجامدة الراكدة عليه، وكان مصلحاً سياسياً، أهاج العزائمَ الخائرة عليه، ولكنَّ هؤلاء وأولئك، لم يُنكِروه عالِماً شجاعاً، له مكانٌ مرموقٌ، في مجال العلم، كما لم يُنكِروه عالماً شجاعاً، لم تخنه شجاعته في أحرج الظروف والأوقات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.