يحتل الفقيه والشيخ المجدد محمد يوسف موسى (1317ه/1899 - 1383 ه/1963)؛ لقب مصلح بامتياز؛ ليس فقط لأنه جمع في جعبته بين التعليم الديني التقليدي/الأزهري والتعليم الحديث، فقد كان ذلك من سمات أغلب شيوخه وأقرانه كمصطفى عبدالرازق ومحمد البهي وغيرهما، ولكن لأنه تابع مدرسة الأستاذ الإمام محمد عبده الإصلاحية بخاصة ما يتعلق منها بإصلاح العملية التعليمية في الأزهر الشريف. والحق يقال، إنّ الرجل وهب نفسه للعلم فلم يتزوج، أو تشغله المناصب عن مشروعه الإصلاحي وإنما قضى حياته كلها في سبيل أمنية غالية عزيزة على قلبه ألا وهي: الإصلاح والتجديد. على أنه قد لاقى في سبيل ذلك الكثير من العنت، كما كان حظ الكثير من المصلحين السابقين واللاحقين على السواء بخاصة ما تعرض له الأستاذ الإمام محمد عبده. وكشأن الكثير من أترابه أيضاً، ولد محمد يوسف موسى في بيئة علمية صالحة حيث درس أبوه في الأزهر حيناً من الزمان، كما كانت أمه حافظة للقرآن الكريم نظراً الى نشأتها في بيت من بيوت العلم، فوالدها الشيخ حسين والي الكبير وأخوها الشيخ حسين والي الصغير كانا من أعلام الأزهر. والأخير شغل منصب السكرتير العام لمجلس الأزهر الأعلى، وكان عضواً في مجلس الشيوخ، وعضواً في مجمع اللغة العربية. أما الدكتور حامد والي، فقد درس هو الآخر في الأزهر ودار العلوم ثم استكمل دراسته في برلين، وعاد كبيراً للأطباء في وزارة المعارف، وكذلك سلك أخوه أحمد المسلك نفسه، في حين سافر إبراهيم والي إلى انكلترا للدراسة بعد أن أنهى دراسته في كل من الأزهر ودار العلوم. وكعادة أقرانه أيضاً تلقى الشيخ تعليمه الأوليّ في أحد الكتاتيب فحفظ القرآن الكريم كاملاً وهو صغير، ثم التحق بالأزهر ابتداء من العام 1912 إلى أن نال الشهادة العالمية بتفوق عام 1925. بعد ذلك مارس مهنة التدريس في معهد الزقازيق إلى أن فصل من وظيفته تلك بسبب قرار الشيخ المراغي، وكان شيخاً للأزهر آنذاك، بطلب الكشف الطبي على جميع المعينين. ومن ثم لم ينجح الشيخ في تجاوز الكشف الطبي نظراً لشدة ضعف بصره والذي، فضلاً عن أنه كان سبباً في فصله من وظيفته، كان سبباً أيضاً في الحيلولة بينه وبين أن يكون طالباً منتظماً في قسم التخصص لولا تدخل الشيخ عبدالمجيد سليم الذي قبل بانتسابه على أن يُمتحن في مواد الفرق الثلاث التي يتكون منها نظام التخصص في آخر العام. وعلى رغم نجاحه في هذا الامتحان الشاق، إلا أنّ الشيخ الظواهري رفض تعيينه بحجة أنه كان طالباً منتسباً وليس منتظماً، في حين أن موقفه هذا كان بسبب الجفاء الذي وقع بينه وبين الشيخ حسين والي خال محمد يوسف موسى!! ونتيجة ليأسه من التعيين في الأزهر، شرع الشيخ في تعلم اللغة الفرنسية وامتهان المحاماة إلى أن أعيد تعيينه في الأزهر في الولاية الثانية للشيخ المراغي (1936) في معهد طنطا أولاً، ثم مدرساً في كلية أصول الدين للفلسفة والأخلاق ثانياً. وفي صيف 1938 سافر إلى فرنسا للحصول على درجة الدكتوراه فحصل عليها العام 1948 من جامعة السوربون. بعد حصوله على الدكتوراه، عرض عليه طه حسين أن يعمل في الجامعة المصرية، فأجابه الشيخ: بأنه لا يرضى بالأزهر بديلاً، فقال له طه حسين: لن يقدرك الأزهر! وبالفعل صدقت نبوءته إذ عاد الدكتور موسى في أواخر صيف 1948 من باريس يحمل أرقى درجة علمية، ليعمل في الفصل الذي كان يدرس فيه، ويأخد الراتب الذي كان مقدراً له من قبل! ويدرس المناهج العقيمة التي تدور في حلقة مفرغة لا يُدرى أين طرفاها! ومع ذلك، لم يؤلمه عدم تقدير الأزهر له بقدر ما آلمه ما كان عليه من جمود وتخلف فسعى إلى تجديده وإصلاحه. على أنه سرعان ما اشتد الخلاف بينه وبين الشيوخ في الأزهر حول تطويره وإصلاحه، لا سيما بعدما نشر في جريدة الأهرام مقالاً خطيراً حول «السياسة التعليمية في الأزهر» دعا فيه إلى أن يكون القسم الابتدائي في الأزهر مشتركاً مع المدارس الابتدائية في مصر، بحيث يُختار طالب القسم الثانويّ في المعاهد الدينية من المدارس الابتدائية، بعد أن تكثر فيها المواد الدينية المناسبة، وبحيث يكون الطالب الأزهريّ في المرحلة الثانوية مُهيأً لدراسة لغة أجنبية ألمّ بها من قبل، ومستعداً لدراسة الضروريّ من فروع الثقافة المختلفة، فيتساوى مع زميله في المدارس العامة من جهة، ولا ينقطع للدراسة التخصصية انقطاعاً تاماً إلا في مرحلة الجامعة من جهة أخرى. نتيجة لذلك، لم تصف الحياة العلمية للشيخ في الأزهر بعد مقاله هذا، وبعدما ناوأه مَن لا يُقدّر حرية الرأي، وعدّوه خصماً لدوداً فقبل الانتقال إلى جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حالياً) لشغل وظيفة أستاذ مساعد للشريعة في كلية الحقوق بعد يأسه من إصلاح الأزهر جامعاً وجامعة. في حين كان المظنونُ، والأولى، أن ينتقل الشيخ إلى كلية الآداب ليُدرّسَ الفلسفة التي نال فيها دكتوراه الدولة في باريس، ومع ذلك أثبت الشيخ جدارته الفائقة حين بهر طلاب الحقوق بغزارة معارفه وشمول نظرته على نحو ما يبدو من مؤلفاته الفقهية في هذا الشأن. وفي عام 1960 اتصل به وزير الأوقاف المصريّ أحمد عبدالله طعيمه، وعرض عليه أن يعمل مستشاراً للدين والثقافة في الوزارة فقبل بذلك. وسرعان ما أصدر مجلة «منبر الإسلام» وكوّن لجاناً مختلفة لتفسير القرآن تفسيراً يتناسب وحال العصر... إلى غير ذلك من المشروعات الإسلامية المتعددة. ثم ساءت أحواله الصحية إلى أن وافته المنية صباح يوم 8 آب (أغسطس) من عام 1963 تاركاً على مكتبه فتاوى وإجابات للشعوب الإفريقية والآسيوية. وتمحورت جهوده الإصلاحية حول عدد من القضايا المركزية يأتي في مقدمها: إصلاح الأزهر، وإصلاح التعليم بوجه عام، وتجديد الفقه الإسلاميّ، وتجديد الفكر الفلسفيّ والأخلاقيّ، وبلورة ما سماه «الحل الإسلامي» لكل قضايا الواقع وإشكالاته. على أنّ جهوده في إصلاح الأزهر تحتاج إلى شيء من التوضيح نظراً لأنها تضمنت الكثير من الأفكار المهمة من ناحية، فضلاً عن أنها راعت السياق التاريخيّ وجوهر العملية التعليمية في الأزهر حاضراً ومستقبلاً من ناحية أخرى. كان الشيخ يؤكد دائماً أنّ الأزهر – وإن كان في مصر - إلا أنه ليس لمصر وحدها، لكنه لأمة الإسلام جميعاً. من هنا جاء نقده اللاذع لواقع الأزهر من دون أن يعبأ بما قد يناله من أذى مؤكداً، «فليهدأ إذاً بالاً الأبناءُ والإخوان المثقفون، فالله متمّ أمره، ولن يقف حذرٌ دون قدر. ولستُ بما أقول اليوم أو بعد اليوم إلا في مقام الناصح الأمين، وليس – وقد جاوز مثلي الخمسين - بأقل من أن ينصح بما يراه حقاً، وليس إنسانٌ مهما علا قدرُه بأكبر من أن يتقبل الرأي الحق، يتقدمُ به ناصحٌ أمين». ولما قام الأزهريون بثورة هادئة جادة وحازمة في أوئل الخمسينات من القرن الماضي، كتب الشيخ في مجلتي الأزهر والرسالة كلمة تحت عنوان «في سبيل الله والأزهر»، قال فيها: «ما كان الأزهرُ في يوم ما طالب دنيا، ولكنه صاحب رسالة، يحرص على أدائها، ويرجو أن يُعانَ عليها، بل ألا يُحال بينه وبينها، وهذه الرسالة هي حفظ كتاب الله وحراسة شريعته، وإذاعة التعاليم الإسلامية في مصر وغير مصر، من أقطار الأمة الإسلامية، والعمل على أن يكون هذا الكتاب الكريم وتلك الشريعة السمحاء هما الفيصل في نواحي التشريع والأخلاق والتقاليد». وكان اهتمامه منصبّاً بالدرجة الأولى على المناهج التعليمية، لأنها لا تعايش العصر من جهة، ولا تعالج المشكلات الواقعية من جهة أخرى. ويخصّ الشيخ كتب علم الكلام بالنقد أكثر من غيرها فيقول فيها: «وإنّ كتب علم الكلام التي يشقى بدراستها طلاب الأزهر إنما تتعرض لمَن أصبحنا لا نُحس لهم وجوداً من أرباب المقالات المُخالفة للدين الحق، وعقائده الصحيحة، ومن العبث أن نعكفَ على جدل قوم لا نكاد نُحس لهم ركزاً، وأن نترك أمثال القاديانية والبهائية، ولهم من النشاط الدينيّ، ومن الدعاوة لمذاهبهم ما هو معروف في أوروبا وأميركا». كما يُنكر الشيخ على الأزهر عدم الاستفادة من مبعوثيه «لأنّ المشيخة لم تحب ولا تحب أن ينتفع الأزهر بمبعوثيه، وبهذا صار للأزهر شكلُ الجامعة من دون أن يكون له حقيقتها ما دام لا يسيرُ على نظم الجامعات (في الإفادة من المبعوثين)، وأصبح من العبث إرسالُ بعثات أخرى نكلفُ أعضاءها كثيراً من الجهد، وتنفق عليهم الأمة كثيراً من المال، حتى إذا عادوا تركوا من دون الإفادة منهم كإخوان لهم من قبل». وحمل في مقالة له بعنوان «تفريط» على جميع طبقات الأزهر: طلاباً، وشيوخاً، وأساتذة، وإدارة... إلخ. ليتحدث بعد ذلك عن ثلاث مسائل مهمة: أولاها مشكلات الطلاب التي يُضربون لأجلها!! ولا يجدون من شيوخهم معاونة لحلها، والصراع المحتدم بين الشيوخ في المعاهد والكليات حول المناصب والحقوق المادية، والاضطراب الشديد في ما يتصل بعدم تركز السلطان وتصريف الأمور في المسؤولين وحدهم بحكم مناصبهم حتى «عظمت البلوى وعمت الشكوى». بل إنه كان من الجرأة بحيث أعلن على الملأ: «إنّ الأمر لا يعدو إحدى اثنتين: إما أن تكون مصرُ والعالم الإسلاميّ في غير حاجةٍ الى الأزهر، أو أن تكون في حاجة ماسة إليه. فإن كانت الأولى فليُغلق الأزهر، وليُنفق ما يُرصد له في الموازنة على غيره من مرافق البلد، وليُريحونا من هذه الحياة التي لا يرضاها حر أبيٌ كريم. وإن كانت الأخرى، فعلى الدولة أن تعرف للأزهر وأبنائه منزلتهم، وأن توفر لهم الحياة الكريمة كفاءَ ما يقومون به من رسالة، وما عليهم من تبعات، وعلى الأمة الإسلامية كلها أن تطالب الدولة بذلك كله في جد وإلحاح». وأخيراً، ظل الأزهر في فكر الشيخ – حتى بعد انتقاله الى العمل في الجامعة المصرية - بمثابة الرباط الروحيّ بين الشعوب الإسلامية، والمركز الثقافيّ الإسلاميّ الأكبر الذي قصّر في القيام برسالته نحو الأعداد الغفيرة التي تفد إليه من شتى بقاع المعمورة، كما قصّر في بث الوعي الدينيّ والثقافة الإسلامية بين أبناء مصر جميعاً، وهو كذلك مُقصّرٌ في تعريف العالم بالإسلام تعريفاً صحيحاً سواء كانوا مسلمين أم غير مسلمين! فما الظنّ لو عاين الشيخ ما آل إليه الأزهر الآن من ضعف وهوان؟... تلك قضية أخرى! * كاتب مصري