من باب الوفاء والولاء يتحتم على العالم الإسلامي أن يتذكر بكثير من الرحمة ذكرى المستشرقة الألمانية «آنا ماري شميل» والتي تمر هذه الأيام عشر سنوات على وفاتها مخلفة وراءها تراثاً فكرياً وثقافياً بل وروحياً يندر أن يوجد مثله، لا سيما في عالم معاصر مملوء بالمتخوفين من الإسلام والداعين الى الخوف من الإسلام، ما شكل ولا يزال إشكالية كبرى هي الإسلاموفوبيا البغيضة التى لا تزال تضرب في جنبات الغرب حتى الساعة. هل يمكن فرداً بعينه أن يمثل وبكفاءة وفرادة وسيطاً ثقافياً بين الغرب والعالم الإسلامي وأن يقف في وجه الأحكام المسبقة والكراهية المقيتة؟ ذلك بالفعل ما لعبته سيدة علوم الاستشراق الألمانية والتي ولدت وترعرعت كما يحدثنا البروفيسور شتيفان فيلد أستاذ اللغات السامية والعلوم السامية في جامعة بون في ظل بزوغ نجم النازية في المانيا، وفي حقبة سادت فيها ثقافة احتقار الآخر، وتأليه الذات، وقد كان مثيراً إلى درجة الدهشة أن تمضي قدماً في سعيها لمعرفة الثقافة والدين الإسلامي في الوقت الذي كان فيه أترابها يتسابقون للحلم بالعلم الألماني والدم الألماني، الأمر الذي قاد إلي نرجسية ألمانية غير مستنيرة حط بها الرحال إلى كارثة الحرب العالمية الثانية. هل من اليسير على المرء أن يحيط في سطور معدودة بسيرة ومسيرة آنا ماري شميل؟ بكل تأكيد وتحديد لا، ولذلك فالأمر في مناسبة الذكرى لا يتجاوز التوقف عند بعض مراحل حياتها المليئة بالمجد الأدبي، والحس الإنساني، والقلب الإيماني الذي يتسع لكل دين وعقيدة وفقه. منذ البدايات الأولى، كان من الواضح أننا أمام نموذج عقلاني استثنائي، فالباحثة «آنا شميل» المولدة في «أيرفورت» في ألمانيا عام 1922، استطاعت الحصول على درجة الدكتوراه الأولى في الأدب العربي والفارسي والتركي والإسلامي من جامعة برلين عام 1941 في عمر لا يتجاوز التسعة عشر عاماً، ولاحقاً حصلت على الدكتوراه الثانية في تاريخ الدين من جامعة ماربورغ، وكانت قد بدأت في دراسة اللغة العربية وهي في سن الخامسة عشرة من عمرها، وموضوع الدكتوراه الأولى هو «دور الخليفة والقاضي في مصر الفاطمية والمملوكية». في المسيرة الأولى للمفكرة الألمانية صديقة الإسلام والمسلمين علامة استفهام حول الوازع والداعي لأن تسلك هذا الاتجاه البحثي المعرفي ذا الطابع الصوفي الإيماني في وقت ألمانيا العنصرية فما كان ذلك؟ ربما كانت بضدها تتمايز الأشياء كما يقال، وعليه ففي زمن الإيديولوجيات النازية بضيقها الإنسدادي كان الدين برحابته الملجأ الأمين والحصن الحصين الذي فرت إليه، آنا شميل، ولذلك ربطت اهتماماتها العلمية بالتصوف وبتحليل العلاقة بين الله والإنسان، كرد فعل مغاير لما تميزت أو اتسمت به النازية من قسوة وعنف. ويلفت النظر كذلك أن رؤية «آنا شميل» في ذلك الوقت إنما تؤشر الى مرحلة جديدة على صعيد الحياة الأكاديمية الألمانية، أراد فيها جيل ما بعد هتلر الإقدام على المصالحة مع الآخر، ومع الآخرين سواء أكانوا حقيقيين أم متوهمين. والشاهد أن تركيا بنوع خاص وبوصفها ملتقى حقيقياً للجغرافيا والتاريخ بين الشرق والغرب، وبين الإسلام والمسيحية كانت منطلقاً خاصاً لرؤى «آنا شميل» في مقبل أيامها، فبعد زيارة بحثية لها عام 1952 وقعت في حب وكرم ضيافه الشعراء والصوفيين في اسطنبول وهناك قبلت بترحاب كبير تعيينها أستاذة لتاريخ الدين في كلية علم اللاهوت الإسلامي في جامعة انقرة عام 1954. لم تنقل «آنا شميل» النصوص من ثقافة إلى أخرى، بل إن وساطتها الثقافية الحقيقية تمثلت في تعليم طلاب العلم هناك التمييز بين ما هو جميل وذاك الذي هو جليل، وفق الظاهرة المقدسة ل «رودلف أوتو» على سبيل المثال. والباحث في أعماق كتابات شميل ودراساتها عن التصوف الإسلامي بنوع خاص وأشكاله المتباينة، يرصد اشارات وإيماءات كثر لقامات صوفية أوروبية، من أمثال «مايستر إيكارت» و «تريزا فون أفيلا» و «يوهانس فون كرويتس»... هل كان التصوف في حياة هؤلاء دافعاً لها لاكتشاف عمق الحياة الباطنية في الإسلام؟ هذا بالفعل صحيح الى أبعد حدود، وقد وضّحت مراراً وتكراراً أن المتصوفين المسلمين، والمتصوفات المسلمات، عاشوا حياتهم وأبعادهم الروحية في رحلة للبحث عن الذات واكتشافها، وقد رأت في الكثير من النصوص الأوروبية المتأخرة التي تعلي من قيمة الحرية الفردية للإنسان تقليداً للتصوف الإسلامي... هل من عد ما ولو تقريبياً لنتاج آنا شميل الفكري؟ لقد كتبت بالفعل ما يزيد عن 150 كتاباً وكتيباً، ونحو 500 مقالة، وفي فترة تقاعدها الممتدة من 1992 2003 كتبت ما لا يقل عن 40 عملاً بما في ذلك سيرتها الذاتية، هذا عطفاً على ما لا يحصى من مقدمات كتب لطلابها ولزملائها، إضافة إلى أعداد فاقت العد من المقالات المتميزة في الصحف والمجلات المحلية. ماذا عن السويداء من القلب في نشاطها وفكرها وكتاباتها؟ إنها الصوفيه، وبشكل خاص عملها الامتيازي «الأبعاد الصوفية للإسلام» (تشابل هيل: جامعة كارولاينا الشمالية، 1975)، والذي يبقى أكبر مرجع بالنسبة الى الدراسات التاريخية والعقائدية تفصيلاً في هذا الموضوع. كانت «آنا شميل» الخبيرة الرئيسة عن الرومي (توفي عام 1273)، والذي كان «موئلاً يخبو للإلهام والسلوان» كما وكانت قد كتبت مجلدات ضخمة عن الجوانب الأخرى للتراث في العبادة في الإسلام. هل بلغت آنا شميل درجة المتصوفة في حياتها التي امتدت نحو ثمانين عاماً؟ الشاهد أن سيدة علوم الاستشراق الأولى قد اختارت أن تختتم أحد آخر أعمالها بهذا التعريف الكلاسيكي للصوفية في الإسلام: «الصوفية أن تجد المتعة في قلبك في وقت الأسى» وهو تعريف يحتوى على رقة روحها، حيث إنها آمنت بأنه «عندما لا تكون هناك نهاية للحياة... فليس هناك نهاية للتعلم التعلم بأي طريقة غامضة، شيء عن أسرار الإله الخفية، والتي تظهر نفسها بإشارات مختلفة. على أن الدراسة المتميزة التي قدمها أخيراً بشأنها البروفيسور «شتيفان فيلد» تلفت إلى أن شميل ركزت على العنصر الفردي الفريد للمتصوف، ذلك أن المتصوف والمتصوفة يشقان طريقهما إلى داخلهما، علماً أن آنا ماري شميل أبدت اهتماماً خاصاً بالجانب الأنثوي للروحانية الإسلامية. لم تكن مسيرة شميل خالية من الصعاب، والمواجهات مع المغايرين لها ذهنياً وفكرياً، لا سيما أنها آلت على نفسها متابعة ما يقرأه ويكتبه المستشرقون الألمان وبخاصة ذوي الأصول اليهودية، ثم تفند ما يرد في رؤاهم من أكاذيب تنافي حقائق التاريخ وطبائع الأمور وتجافيها، ولهذا كان من الطبيعي أن يتخذ منها المستشرقون بعامة والألمان منهم بخاصة موقفاً عدائياً على رغم أنها لم تعلن إسلامها حتى رحيلها... ما الذي ميز شميل حتى تجد لها مثل هذه المكانة المتقدمة جداً بين صفوف المستشرقين المنصفين للإسلام والمسلمين؟ حكماً إنه «الحب» الذي ملأ قلبها وعقلها وبصدق تجاه الحضارة الإسلامية، وتجردها عن الهوى الشخصي، والتعصب المذهبي، لقد نجحت في إدراك الكثير من الأهداف السامية التي عجز عن تحقيقها غالبية نظرائها، كما ارتكزت على الكثير من الحب والرغبة في اكتشاف الجوانب المضيئة فيها. ولعل من بين العواصم والبلدان الإسلامية الكبرى التي تركت انطباعاً كبيراً في حياة «آنا شميل» تأتي باكستان بنوع خاص وقد بدأت تلك العلاقة عام 1958 عندما ترجمت كتاب الشاعر والمفكر الباكستاني الكبير «محمد إقبال» «الخلود» إلى اللغة الألمانية وهو كتاب يعد تفسيراً عصرياً للإسراء والمعراج، وقد كان لها أثر كبير في باكستان حتى أن جادة هامة في مدينة لاهور قد سمّيت باسمها. * كاتب مصري