تدوي أصوات الانفجارات وقذائف الهاون في شرق ووسط وغرب المنطقة الحدودية الأردنية المجاورة لبلدات سورية كانت تعرف نعمة الرخاء وتشتهر بالأرض الزراعية الخصبة، قبل أن تدمرها القوات الموالية لنظام الرئيس بشار الأسد. وعلى صليات مدافع غليظة الصوت تستيقظ القرى الأردنية على طول الشريط الحدودي الممتد على 370 كلم، لتنام على قصف الطائرات الذي بات جزءاً من الحياة اليومية لسكان قرى «الذنيبة» و «عمراوة» و «الطرة» التابعة لواء الرمثا القريب من بلدات الجنوب السوري. وهي البلدات المثخنة بجراح غائرة تحمل قصص الموت والحياة على تناقضاتها. لا يغادر الخوف الممزوج بالترقب سكان القرى الأردنية، بعد أن اخترقت جدران منازلهم المعدمة خلال الأشهر الماضية عشرات المقذوفات المغلفة برائحة الموت والأحمر القاني، ما خلف إصابات متنوعة في صفوف المدنيين وأفراد الجيش الأردني المرابطين على الحدود. توغلت «الحياة» لأكثر من 8 ساعات في نقاط «الموت» الموزعة على حدود البلدين، ونقلت صوراً مروعة لحظة وصول اللاجئين في إحدى الليالي من منطقة حدودية محرمة ضمن موجة نزوح متواصلة ترقبها القوات الأردنية على حدودها الضخمة مع سورية، التي لا يدل عليها سوى أسلاك شائكة أحدث الفارون فيها فجوات كبيرة، ليتسنى لهم العبور. رصدنا مع غروب الشمس وتحت جنح الظلام مشاهد حية للاجئين جلهم من النساء والأطفال، يعبرون مناطق وعرة باتجاه النقطة الأولى الواقعة وسط الجبهة الأردنية. عند هذه النقطة يصل اللاجئون المنهكون مشياً على الأقدام برفقة عناصر من قوات المعارضة المسلحة، التي تقوم بتجميع هؤلاء في منازل نجت من القصف داخل القرى الحدودية، قبل أن تقلهم نحو الأراضي الأردنية. وعند النقطة الثانية حيث المنطقة الشمالية الغربية للحدود مع سورية، يصل الفارون بواسطة قوارب خشبية قديمة غير آمنة تقطع بهم نهر اليرموك ومياه سد الوحدة، لتصل إحدى نقاط الجيش المرابطة بصمت عند أول ثكنة أردنية. وتعتبر هذه القوارب جزءاً من رحلة شاقة يحفها خطر الموت، نظراً الى ارتفاع مياه السد وملاحقتهم من جهة القوات النظامية السورية، التي لا تتوقف عن إطلاق النار من بنادق حصدت حتى يومنا هذا عشرات آلاف المدنيين. أما النقطة الثالثة التي شملتها جولة «الحياة» مع فرق تتبع الجيش الأردني، فهي نقطة عبور المنطقة الشرقية التي تستقبل يومياً جماعات النازحين من المدن السورية الثائرة في طول البلاد وعرضها. عند هذه النقطة التي وصلنا إليها ليلاً سالكين طرقاً وعرة، كان اللاجئون يتوافدون بأعداد كبيرة، فيما يقطع عتمة الصمت بكاء عائلات فقدت بعض أفرادها أثناء رحلة العبور، وصراخ أمهات أضعن أطفالاً تاهوا في طوفان البشر الفارين، وعويل جرحى أصابهم الرصاص عند اجتيازهم الحد الفاصل. تسير طوابير اللجوء الطويلة تحت غطاء الليل، لتضم من أنهكتهم الحرب القسرية ورسمت على وجوههم علامات القلق والخوف. وبينما يكتفي هؤلاء في حمل مقتنيات شخصية بسيطة وقليل من المعلبات الغذائية، تواصل أبراج المراقبة السورية إطلاق رصاصات القنص، فتصيب بعضهم إصابات قاتلة وتبعث الخوف في أوصال من يسمعها. تختلط هنا المشاهد وتتزاحم العبرات ويتلون الحال عند من يصارع البقاء، ليلملم ما تبقى من أحزان وأوجاع بعيداً من راجمات القتل وفقد مزيد من الأهل والأحبة. عند وصول الحد الأردني يتبدل الوضع من هدوء إلى ترقب ثم صمت وبكاء، فيما تقود فرق الجيش عمليات الإنقاذ لضحايا الخوف والجوع وسفك الدماء. وعند هذا الحد تستنفر عناصر حرس الحدود التي تمثل واحدة من أهم وحدات الجيش الأردني كل مساء، مستقبلة المئات وأحياناً الآلاف ممن شردهم العنف في بلادهم. وتقف سيارات إسعاف وكوادر طبية لاستقبال اللاجئين، ومدهم بالإسعافات اللازمة والماء والطعام. وعند أحد السواتر الترابية في المنطقة الفاصلة بين البلدين يجلس الناجون بأرواحهم وسط برد قارس، بانتظار نقلهم إلى مخيم الزعتري المشيد في عمق الصحراء الشرقية. ومن بين هؤلاء نسمة (19 سنة)، التي قالت بأسى وهي تغطي وجهها بوشاح أسود، إنها رفضت مراراً مغادرة قريتها «المسيفرة» التابعة الى مدينة درعا الجنوبية. وزادت «الآلاف هجروا القرية وهربوا من الموت، بعد أن فقدوا الكثير من أحبائهم تحت قصف الطائرات المدافع». أما فراس (39 سنة) القادم من بلدة «الحراك» التابعة درعا، فقال والحزن يعتصره وإلى جانبه أطفاله الصغار يتعثرون في حجارة الحدود ونباتاتها الشائكة «هذا هو الحال الذي وصلنا إليه. الحياة في بلدنا باتت مستحيلة!». وفي زاوية الشارع الترابي المؤدي إلى حافلات خضراء اللون وفرها حرس الحدود الأردني لنقل الوافدين الجدد إلى محطتهم الثانية حيث الزعتري، جلست فاطمة (64 سنة) على الأرض تراقب بقايا بلدة مهدمة غادرتها منذ ساعات وهي «بصر الحرير»، تاركة فيها أنقاض منزل وجثث اثنين من أبناء عمومتها. كان يجلس إلى جانبها طارق (48 سنة) والألم يعتصره أيضاً، قائلاً إن «القصف العنيف في أنحاء المدن والقرى الجنوبية يسرع وتيرة النزوح الجماعي». وتابع باكياً «الكثير من رفاقي وأبناء عمي قضوا أثناء القصف». ويقول العميد حسين الزيود قائد قوات حرس الحدود الأردنية إن قرابة 89 ألف لاجئ عبروا الحدود منذ بداية العام الجاري. ويبلغ عدد السوريين المسجلين رسمياً كلاجئين في الأردن نحو 380 ألف لاجئ، حتى نشر هذا التقرير. ولا تخفي مؤسسات القرار في عمان أنها تجد صعوبات بالغة في التصدي للتدفق المتواصل للاجئين والأعباء التي تقع على كاهلها. ووفق الزيود فإن «موازنة القوات المسلحة تحملت تكاليف إيواء ومساعدة اللاجئين السوريين بما يزيد على 250 مليون دينار (353 مليون دولار) حتى نهاية كانون الثاني الماضي». ويقول الناطق باسم الحكومة الأردنية، الوزير سميح المعايطة إن بلاده «قد تضطر لإغلاق حدودها مع سورية في حال انهيار النظام في دمشق وانتشار الفوضى على نحو غير مسبوق».