تعتبَر سوق الإصدارات الأولية السوق التي تولَد وتؤسَّس فيها الشركات المساهمة العامة، سواء الحديثة التأسيس أو العائلية أو المساهمة الخاصة، وفيها تحوَّل الشركات إلى مساهمة عامة، ومن خلالها تقوم الشركات المساهمة العامة القائمة أو العاملة بطروح عامة أو خاصة لمساهميها للحصول على الأموال من أجل تنفيذ مشاريعها وتوسعاتها وتعزيز رأس مالها العامل. سوق الإصدارات الأولية في أي دولة أحد مصادر التمويل المهمة وتلعب دوراً مهماً في تعزيز أداء الاقتصاد الوطني وانتعاش قطاعاته الاقتصادية المختلفة وتساهم في حل مشكلة البطالة وغير ذلك كثير من الإيجابيات. وتساهم هذه السوق في توظيف جزء من مدخرات المستثمرين فتتحول هذه الأموال المستثمرة من أموال عاطلة أو خاملة مودعة في المصارف إلى رأسمال عامل وفاعل في الدورة الاقتصادية. وعادة تحقق الأموال المستثمرة في سوق الإصدارات الأولية عائداً مجزياً يساهم في تنويع مداخيل المستثمرين وتساهم في توسيع قاعدة المستفيدين من مكاسب التنمية وارتفاع دخل نسبة مهمة من المواطنين. وينعكس نشاط سوق الإصدارات الأولية إيجاباً على أداء أسواق المال، فتُدرج أسهم الشركات الحديثة التأسيس في هذه الأسواق بعد طرحها للاكتتاب من أجل بيع أسهمها وشرائها من قبل المستثمرين ما يساهم في زيادة عمق هذه الأسواق وتداولاتها وتنوع الفرص الاستثمارية المتوافرة. وخلال فترة نشاط سوق الإصدارات الأولية يبرز نمو كبير في تداولات الأسواق المالية بعد إدراج أسهم الشركات التي طُرحت للاكتتاب العام وارتفاع القيمة السوقية لأسهم الشركات المدرجة، ويكون نشاط السوق عادة مرتبطاً بنشاط أسواق المال والبورصات. وهكذا، برز نشاط كبير في أسواق الإصدارات الأولية في معظم دول المنطقة خلال فترة انتعاش الأسواق المالية بين الربع الأول من 2004 والربع الأخير من 2008، أي قبل توالي التأثيرات السلبية للأزمة المالية العالمية. وأدى الكساد والركود الذي شهدته أسواق الأسهم إلى ركود وكساد مماثل في سوق الإصدارات الأولية نتيجة تراجع مستوى الثقة في هذه الأسواق، وفي الإمارات، مثلاً، توقف نشاط سوق الإصدارات الأولية اعتباراً من بداية الربع الأخير من 2008 واستمر متوقفاً حتى 2011 إذ شهد هذا العام ثلاثة إصدارات بقيم محدودة جداً وعاودت التوقف عام 2012. وينطبق الأمر ذاته على معظم أسواق المنطقة، وساهم في ذلك انخفاض أسعار أسهم عدد كبير من الشركات المدرجة في أسواق المنطقة إلى ما دون قيمتها الاسمية أو قيمتها التأسيسية وبالتالي برز تردد واضح لدى مؤسسي بعض الشركات المساهمة في طرحها للاكتتاب العام خوفاً من عدم تغطيتها ما يؤدي إلى فشل هذه الإصدارات. والنشاط الملحوظ الذي يشهده الكثير من أسواق المنطقة خلال النصف الثاني من العام الماضي وبداية هذا العام يعود إلى عوامل منها تحسن أداء الاقتصادات الوطنية ما انعكس إيجاباً على ربحية الشركات المساهمة العامة وتوزيعاتها إضافة إلى انحسار العوامل السلبية سواء العالمية أو الإقليمية والتي تأثرت بها هذه الأسواق خلال الأعوام الماضية. وأدى هذا النشاط إلى ارتفاع معنويات المستثمرين وارتفاع مستوى الثقة والإقبال على تحمل الأخطار، وأصبح بالتالي بعض المحللين يراهن على قرب استعادة سوق الإصدارات الأولية نشاطها. ويحتاج نشاط هذه السوق إلى تحسن ملحوظ في مؤشرات أداء أسواق الأسهم لفترة لا تقل عن ستة شهور متتالية إذ تساهم هذه الفترة الزمنية في ترسيخ الثقة وانحسار حال الحذر والترقب ودخول كل شرائح المستثمرين وفي مقدمهم المستثمرون في الأجل الطويل والمستثمرون المؤسسيون ما يساهم في ارتفاع سيولة هذه الأسواق. في المرحلة القريبة المقبلة، ولحفز الطلب على أسهم الشركات الحديثة التأسيس، ومعالجة الكثير من الثغرات والأخطاء التي صاحبت طرح أسهم بعض الشركات أثناء طفرة الأسواق، ينبغي توافر مواصفات مهمة للشركات المطروحة للاكتتاب، خصوصاً دراسات الجدوى الاقتصادية المحكمة الصادرة عن جهات مختصة ومعروفة توضح العائدات والأخطار المتوقعة، إضافة إلى اختيار الشركات التي تعمل في قطاعات واعدة وتديرها مجالس إدارة من المؤسسين تتمتع بسمعة وصدقية ومهنية عالية. ويرى بعض المحللين أن تخصيص الحكومات بعضاً من الشركات القوية التي تملكها وتتمتع بسجلات حافلة بالإنجازات ومؤشرات النمو والربحية المتميزة، سيشجع أعداداً كبيرة من المستثمرين على الإقبال للاكتتاب في أسهم هذه الشركات نتيجة توقعهم عائدات استثمارية جيدة ومستوى منخفضاً من الأخطار، إضافة إلى أهمية طرح جزء من رؤوس أموال بعض الشركات العائلية والتي تتمتع بسمعة طيبة وأداء متميز، خصوصاً أن بعض الشركات العائلية تلجأ إلى التحول إلى مساهمة عامة للاستفادة من مصدر جديد لتمويل مشاريعها وتوسعاتها، إضافة إلى تبني الإدارة المهنية والحوكمة والتي أثبتت جدواها في تعزيز كفاءة الشركات ومساعدتها على تحقيق أهدافها في المدى الطويل. * مستشار لأسواق المال في «بنك أبو ظبي الوطني»