في عام 1639 تقريباً وكان في الحادية والثلاثين من عمره، وقد حصل على بعض الشهرة بفضل أعماله الشعرية المتفرقة التي نشرها خلال السنوات السابقة، اتخذ الشاعر والكاتب الإنكليزي جون ميلتون قراره بكتابة عمل شعري ملحمي كبير. يومها لم يكن القرار متعلقاً بملحمة «الفردوس المفقود» تحديداً، بل كانت تراود رأسه مجموعة من المشاريع والأفكار المتنوعة من بينها قصيدة طويلة عن تاريخ إنكلترا، وعمل تدور أحداثه أيام الإغريق، وثالث يتحدث عن أمور يفترض الشاعر أنها حدثت خلال العصور الأولى للمسيحية. ومن بين هذه الأفكار كانت هناك، بالطبع، الفكرة التي تلحّ على ميلتون أكثر من غيرها: فكرة ملحمة طويلة تتحدث عن هبوط الإنسان من الفردوس إلى الأرض بسبب خطيئته، وأكثر من هذا: بسبب الخطيئة التي دفعه إليها الشيطان. ولاحقاً، بعد حوالى ربع قرن حين كتب ميلتون تلك القصيدة الملحمية التي تعد فريدة من نوعها في الأدب الإنكليزي، تعمد أن يحدّد هدفه من كتابتها منذ سطورها الثلاثة الأولى حيث قال إنه سيتغنّى ب «أول فعل عصيان قام به الإنسان، بثمرة الشجرة المحرمة، تلك الثمرة التي يحمل مذاقها القاتل الموت للإنسان...». إذاً، كانت غاية ميلتون منذ البداية أن يرسم صورة شعرية لرحلة الإنسان إلى الكون وفي الكون. فكان أن أنتج في سبيل التعبير عن فكرته، هذا السفر الذي يتوزع على عشرة أجزاء، حاملاً تلك الحكاية التي لن يكون صعباً أو مفاجئاً أن ندرك على الفور أنها مستقاة مباشرة من الكتب المقدسة. غير أن اللافت في العمل هو أن الإنسان لا يبدأ ظهوره فيه إلا منذ منتصف الكتاب الرابع، أي أنه يظل غائباً تماماً عن الثلث الأول من الملحمة. ذلك الثلث الذي تشغله مغامرات الشيطان وألاعيبه ومعاركه ورغبته في العصيان. إذاً، سيسأل القارئ نفسه هنا حائراً: هل أنا يا ترى أمام حكاية الإنسان أم حكاية الشيطان؟ بالتأكيد إنه عند هذا المستوى من القراءة سيكون من الصعب الوصول إلى جواب حاسم على هذا السؤال، ولكن من المؤكد أن ميلتون لم يكن حتى في الثلث الأول من عمله، بعيداً من هدفه، فحكاية الشيطان هي بالنسبة إليه حكاية الإنسان. حكاية الخير والشر، الطاعة والعصيان. بمعنى أن الاثنين وجها عملة واحدة، أو هذا على الأقل ما يراه مفسرو ميلتون المعاصرون. تنقسم ملحمة «الفردوس المفقود» كما أشرنا إلى عشرة كتب، في الثلاثة الأولى منها يروي لنا ميلتون مغامرة الشيطان في الكون، تلك المغامرة التي يفصح عنها الشيطان منذ الصفحات الافتتاحية للكتاب الأول حين يسرّ إلينا بأن الهدف الأسمى للشيطان إنما هو دفع الإنسان إلى العصيان. ولكن لماذا؟ لأن الشيطان سبق له أن سقط مغضوباً عليه «طوّح به الله القدير ذو الجبروت، فهو من علياء السماء يتّقد لهباً، يروم القلب منه ما احترق وما تحطّم، وتردى في هاوية ما لها من قرار، بها يأوي مغلولاً يصم السلاسل يصطلي النار جزاء بما حدثته النفس أن يناجز القوي القدير، وفي قرار مهواه تسع فضاءات مما يذرع به الأناسي خطو الليل والنهار، تردى ألا يتم هزيلاً بصحبة شيعته، يتقلب في حمأة الجحيم». من هنا، كان نقاشه ومساجلاته مع مجمع الملائكة ومع الشياطين الآخرين، قبل أن يتخذ قراره الحاسم، وبدأ بممارسة خطته ولكن بدءاً بالكتاب الرابع. وهو هنا، تبعاً لتلك الخطة المرسومة، يجتاز الفضاء والشمس حتى يصل إلى جنة عدن حيث آدم يعيش وحواء هانئاً هادئ البال في حِمى طاعة الله. وهناك إذ يتنكر الشيطان، ويعلو شجرة الحياة يفهم بسرعة كيف أن الله حظر على آدم وحواء تناول ثمرة شجرة المعرفة، فلا يكون منه إلا أن يقترب من حواء كي يغويها فتغوي آدم بدورها، ولكن الملاك جبريل سرعان ما يجابهه ويردعه أول الأمر... إلى آخر الحكاية المعروفة. وتبعاً لهذه الحكاية نعرف طبعاً أن الشيطان يعود وينجح في خطته، غير أن هذا النجاح الأول لا يكفيه إذ يتابع مساعيه في الأجزاء التالية مواكباً الإنسان حتى بعد سقوطه من أعالي الفردوس. وفي الكتابين الخامس والسادس يصف لنا ميلتون حروب الجحيم ومتابعة الشيطان معاركه، أما في الجزءين التاليين فإن الشاعر يتوقف بنا عند تكوّن الخليقة إثر عصيان آدم وحواء وهبوطهما إلى الحياة الدنيا مطرودَين من الفردوس السعيد، ويتابع شرور الشيطان الذي لا ينفك يواكب البشرية في حلها وترحالها. أما في الكتب الأخيرة فإن ميلتون يتابع تاريخ الإنسان على وجه الأرض وكأن غايته هنا أن يوجد معادلاً لغياب تاريخ الإنسان عن الكتب الثلاثة الأولى. ومها يكن من أمر فإن آدم وحواء يطلبان المغفرة فيما يكوّنان البشرية، وفيما يتابع الشيطان عمله. من الواضح هنا أن ميلتون في هذا العمل، روى من ناحية الشكل الظاهري حكاية سفر الشيطان في السديم وسفر الإنسان في الكون، على الشاكلة التي تنوقلت بها الحكايات على مرّ العصور، وكما تقترحها الأديان السماوية، والأساطير الشعبية. ولكن، من الواضح أيضاً وفي الوقت نفسه، أن هذه لم تكن غايته إلا في شكل جزئيّ. ذلك أن الشاعر، حين كتب هذا العمل، كان يهمّه أن يجعل من الإنسان مركزاً للكون، ومن حكاية عصيانه - وإن بدفع من الشيطان - مبرراً لكتابة تاريخ ذهني واجتماعي، وربما سياسي أيضاً، للبشرية. وحتى لو كان الشيطان هو بطل رحلة السقوط من الفردوس وفقدانه إياه - من هنا، عنوان الكتاب - فإن السقوط نفسه يصفه لنا ميلتون في بعده السيكولوجي وليس في بعده الأسطوري - الديني. السقوط مجاز، وما الشيطان والإنسان، كما أشرنا سوى واحد. العصيان، كفعل إنساني واع، حتى ولو كان بدفع خارجي، هو مركز اللعبة هنا، العصيان لخالق للبشرية، حتى ولو كان الإنسان يعرف أن الثمن الذي يُدعى إلى دفعه كبير. وليس أدل على هذا من أن كبار الباحثين الذي حللوا «الفردوس المفقود» أدهشهم ما أُعطيَ فيها من قدرة للإنسان على أن يخطئ ثم يتوب، وفي الحالين، كفعل إرادة حرة. عندما كتب جون ميلتون «الفردوس المفقود» كان ذلك عند نهاية سنوات الخمسين من القرن السابع عشر، وكان له من العمر حوالى خمسين سنة، وكانت عشر سنوات مضت عليه تقريباً، وهو يعيش أوضاعاً مأسوية أفقدته على التوالي، بصره وزوجته المحبوبة وابنه الذكر الوحيد الذي كان أنجبه وسط ثلاث بنات. قبل ذلك كان ميلتون يعيش حياة حافلة بالنجاح والازدهار. ومن المؤكد أن المآسي التي عاشها تباعاً جعلته يتوقف ذات لحظة ويتساءل كيف أصيب بهذا كله وهو المؤمن الورع؟ ولم يحر جواباً، لكنه إذ لاحظ لاحقاً قوّته وقدرته على تحمّل ما أصابه، أحس على رغم عماه، أن لديه من القوة ما يفسر قدرة الإنسان على بناء العالم والتاريخ على رغم ما أصابه وفقدانه الفردوس. ويقيناً أن كتابته «الفردوس المفقود» بما فيها من قوة وجبروت، إنما كانت الرد على شكوكه لحظة في إنسانيته، والتعبير عن قدرة الإنسان كمركز للكون... أو هذا ما فُسّرت به الملحمة، على الأقل، على ضوء ارتباطها بسيرة جون ميلتون. وجون ميلتون الذي لُقّب لاحقاً ب «الشاعر الضرير» ولد في مدينة لندن في عام 1608 ابناً لرجل قانون وموثّق عقود. وهو عاش في البداية حياة مرفهة وتلقى تعليماً دينياً عميقاً وورعاً وأتقن الكثير من اللغات منذ اكتشف في نفسه باكراً ميلاً إلى الشعر والفلسفة، وراح يقرأ النصوص الكلاسيكية بلغاتها الأصلية. وكان ميلتون غزير الإنتاج ولا سيما في كتابة الشعر والتاريخ. وهو خاض كتابة القصائد والسوناتا، كما كتب في اللاهوت وفي تاريخ الكنيسة، ومع هذا يظل «الفردوس المفقود» أهم أعماله يليه «الفردوس المستعاد» و «شمشون يعاني». ومات ميلتون في عام 1674 بعد أن أبدع للأدب الإنكليزي ذلك النص الذي يعتبر العمل الملحمي الشعري الوحيد في هذا الأدب بسنوات عدة. [email protected]